أكثر من راحة يد واحدة، دافئة وحانية، دفعتني برفق للخروج، مؤخراً، من حومة الاكتئاب المستفحل في بروج الروح، ومفارقة هذا العذاب الممض الذي يغذي نفسه بنفسه من مشاهد سفك الدماء، ويوطد أركانه بسيل من التطورات التي لا تسر البال. وبصعوبة شديدة، استجبت للنداء الحي، وغادرت حالة الانخراط العميق في معمعان المتابعات الكثيفة ليوميات الثورة السورية، وغيرها من الوقائع المتدفقة، كأنها ريح صرصر في ليلة شتاء قطبي، تهب على مدى الرقعة العربية الممتدة باسترخاء أقرب إلى الخدر، من الماء المالح إلى الماء الأجاج.
وهكذا انتقلت بصعوبة من فضاء مثخن بالحزن والالتياع والأسى العميق، إلى آخر يتدفق فيه الندى والعطر والسناء، وذلك عندما شاهدت سهرة تلفزيونية رائقة، يتنافس فيها عدد من الشابات والشباب العرب على مسرح عريض، كأنه بألوانه المبهرة قطعة من السماء، للفوز بلقب "محبوب العرب"؛ وهو ذروة سنامٍ مجدٍ تؤهل صاحبها للتحليق عالياً بين نجوم الطرب، وحصد الشهرة والمال والإعجاب، الامر الذي فرج قليلاً على نفس مثقلة باللواعج، وأشعل فيها قبساً يسيراً من الابتهاج.
الحق أن ما حدا بي إلى مواصلة الاهتمام بهذه السهرة التلفزيونية الأسبوعية، اشتراك شاب من قطاع غزة، علمت فيما بعد أنه كابد كثيراً، واجتاز قيود منع السفر، كي يصل إلى بيروت حيث ساحة المنافسة، قادماً من بيئة ثقافية ترى في الغناء مفسدة للذوق العام، ودرباً من دروب الغواية واللهو الماجن والانحراف، وذلك وفق نواهي الإمارة المولعة بالنموذج الأفغاني، وأحكامها المهمومة "بحمسنة" الحياة الاجتماعية، بما في ذلك قوننة عقوبة الجلد وشرعنة إقامة الحد.
وقبل أن استرسل أكثر حول موضوع "محبوب العرب"، أود التوقف قليلاً عند فعالية ثقافية احتضنتها أمانة عمان قبل نحو عام، كان قد أقامها فنانون قادمون من القطاع المحاصر، لإظهار أن لغزة وجهاً آخر جميلا، وصورة أخرى مختلفة عن تلك الصورة النمطية التي تشكلت في الأذهان العامة؛ عن ذلك الشريط المزدحم بالفقراء والبنادق والأنفاق، الأمر الذي أدهشني وجمهوراً واسعاً ممن ارتادوا تلك القاعة الفسيحة، وهم يطالعون لوحات تشكيلية مثيرة للخيال، وإبداعاً إنسانياً، وفنون موسيقى وأغاني تستحق الإصغاء.
وبعيداً عن تلك المنظومة القيمية المتآخية مع عوالم قندهار، فقد بدا المتسابق الغزي ذو الصوت الآسر للأسماع، واسمه محمد عساف، في منزلة بطل جدير بالتشجيع والفخر لدى أغلبية الفلسطينيين في الداخل والشتات؛ إذ امتلأت الصحافة الفلسطينية بمقالات تفيض إعجاباً بالفتى الآتي من خان يونس، وراحت ترفع اسمه إلى مرتبة تضاهي مكانة الأسير سامر العيساوي الذي انتصر بأمعائه الخاوية على جلاديه، فكان الاثنان وكأنهما ماستان في تاج، أو قل سيفين تقاطعا في برواز لوحة معلقة على جدار بيت من بيوت اللاجئين الفقراء.
على أي حال، فإن استحسان الجمهور في القاعة لصوت محمد عساف، وإطراء لجنة التحكيم عليه، قد أدخلاه سلفاً في صف النجوم التي تتلألأ في الليل، كما طوبه الاستقبال الواسع من لدن الغزيين خصوصاً، وعموم الفلسطينيين، قادة ومسؤولين وآباء وأمهات، كعلم في رأسه نار، وأدخله في مصاف الرموز ذات الدلالات التي يمكن البناء عليها، لاستنهاض مشاعر الاعتزاز بالذات، ومقاومة الحس بالخذلان والنسء، وتخليد ما قاله محمود درويش ذات يوم "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
تبقى في نهاية الأمر إشكالية لا أدري كيف سيتمكن محمد عساف من حلها عندما يعود أدراجه إلى إمارة "حماستان"، حيث تجري حملة "الفضيلة" على قدم وساق، وحيث البيئة الاجتماعية غير المواتية، وحيث بكائيات المناخ الإسلاموي الذي يعتقد أن الغناء، شأن الرياضة والسينما وكل الفنون، إفساد للأجيال الصاعدة، ودرب زلق يفتح على الخلاعة والخنوثة، يستمطر اللعنات على رؤوس مثل هؤلاء الماجنين وذويهم الذين مسهم ضلال مبين. فكان الله في عون هذا الفتى الذي نأمل ألا يجد في استقباله رهطا من أمراء الظلام، يزجرونه بالقول الغليظ، وألا يلقى النبذ والتهميش والاتهام بالفسق والانحلال.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي