لعل من المفيد كثيراً لمتخذي القرارات الاستراتيجية في أعلى هرم الدولة، أن يشجعوا على إثراء حوار وطني واسع النطاق، حول موقف الشارع السياسي ووجهات نظر قادة الرأي العام، فيما يتصل بمسألة نشر بطاريات "باتريوت" المضادة للصواريخ البالستية، وذلك بعد أن ارتفع منسوب التهديدات الخارجية، وتزايدت مخاطر حدوث انفجار عسكري واسع، قد لا تستثني شواظه أيا من الدول المجاورة لبيت النار المضطرمة في سورية.
إذ يتضح لكل ذي بصيرة أن القدرة على التحكم بالأزمة السورية، والحيلولة دون ارتداد مضاعفاتها على المحيط الإقليمي، تضعف مع مرور الوقت، وتخرج شيئاً فشيئاً عن نطاق السيطرة، كلما واصلت الدول المشتبكة في هذه الأزمة انخراطها في اللعبة الدموية الطاحنة؛ الأمر الذي يملي على صانعي القرار في عواصم شرق المتوسط، كل على حدة، إعادة تقدير الموقف يوماً بيوم، والتموضع بصورة أشد اتساقاً مع الاعتبارات الذاتية والحسابات الوطنية بعيدة المدى.
وفيما حسمت دولة في وزن تركيا خياراتها على هذا الصعيد، ونصبت عدداً من بطاريات "باتريوت" على مقربة من حدودها الجنوبية، يتردد الأردن ويواصل حذره في استقدام هذا النوع من الصواريخ المضادة للصواريخ، درءاً لكل سوء فهم محتمل، قد يفضي إلى غير ما يرغب فيه بلد تمسك بسياسة النأي بالنفس، وظل يحض على إيجاد مخرج توافقي، لحل أزمة ألقت بمضاعفاتها الاجتماعية على بنية اقتصادية ضعيفة، وأشعلت أكثر من ضوء أحمر واحد إزاء استقراره وأمنه اللذين يمثلان جل رأسماله الوطني.
ومع أنه من غير المتوقع أن يدخل بلد مختطف مثل لبنان، أو أن يجري بلد آخر مجاور مثل العراق، يكفيه ما فيه من انقسامات وسيارات مفخخة، حلبة مثل هذا النقاش الداخلي حول أفضل الخيارات الملائمة لحساباته الداخلية وتحسباته الخارجية، فإن البلد العربي الثالث المجاور لسورية، ونعني به الأردن، مطالب أكثر من كل جيرانه بمراجعة مواقفه المعلنة إزاء تطورات الأزمة المحتدمة في الجارة الشمالية، واتخاذ ما يلزم من تدابير استباقية تلائم أوضاعه الذاتية، وتتسق مع التزاماته المختلفة، بما في ذلك التزامه المطلق بحماية أرضه وشعبه عند حدوث تغييرات مفاجئة.
ذلك أن المشهد الراهن للأزمة السورية، وما يطرأ عليه من تغيرات عميقة ومتسارعة، خصوصاً بعد أن باتت الأسلحة الصاروخية عنوان المرحلة الوشيكة من عمر هذه الأزمة، لا يترك متسعا أكثر من الوقت أمام صانعي القرار، في بعديه السياسي والعسكري، لإمعان النظر طويلاً في الخيارات المتاحة، والخروج من المراوحة في المنطقة الرمادية، لاسيما وأن النظام المأزوم في دمشق، قد يتهور في لحظة يأس محتملة بتنفيذ تهديده بإشعال النار في المنطقة، سعياً منه إلى إعادة خلط الأوراق، ومن ثم الإمساك، كأي غريق، بقشة عائمة.
وبنظرة أشمل على مختلف المعطيات المتصلة بمواقف الدول المتورطة في الأزمة السورية الذاهبة من طور معقد إلى طور أشد تعقيدا، نجد أن الدول الكبرى باتت تعتمد ما يمكن تسميته "دبلوماسية الصواريخ"، ناهيك عن الأسلحة النوعية، كعنوان بالخط الأحمر العريض لهذه المرحلة من زمن أزمة وجدت فيها موسكو منجماً ذهبياً لاستعادة مكانتها السابقة، ووظفت طهران عبرها كل ما لديها من أوراق قوة، فيما وقفت إسرائيل كذئب متوحد، تهدد علناً، وتنفذه أحياناً، لمنع اللاعبين الكبيرين مع الأسد من الانجراف وراء هذه الدبلوماسية الصاروخية.
إزاء ذلك كله، وفي غمرة النقاش الصحي الذي بدأ يخرج من وراء الأبواب المغلقة إلى الإعلام والفضاء السياسي المفتوح، فإن من الحكمة التي تسمو على كل التبريرات الأخرى، حسم القرار المركزي الذي ينضج على نار هادئة، ومن ثم المبادرة إلى اتخاذ موقف لا يمكن تأجيله أكثر، لنصب بطاريات "باتريوت"، ورفع سوية القدرات الذاتية في مواجهة تداعيات الأزمة المتدحرجة، وذلك حتى لا يأتي يوم قد لا يكون بعيداً، نجد فيه أنفسنا في عين عاصفة عاتية، مفتقرين إلى أداة ردع استراتيجي كان يمكن لها أن تحول دون وقوع ما لا يحمد عقباه، وحيث لا ينفع الندم بعده.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي