منذ أن شرعت قطر في تمييز نفسها كإمارة صغيرة متوثبة في محيط خليجي ساكن، وشقت طريقاً غير مألوفة في السياسات العربية المنكفئة على ذاتها، وأدت دوراً مثيراً للتساؤلات، جامعاً للمناقضات، في عدد من القضايا الخلافية في الإقليم؛ ظلت الإمارة الغنية الطامحة تبعث، على مدى نحو عقد ونصف العقد، حالة من الدهشة الموزعة بين مشاعر الإعجاب والتحفظ لدى العواصم والمراقبين والدبلوماسيين في المنطقة العربية وخارجها.
بالأمس، كان نقل أمير قطر مقاليد الحكم لابنه وولي عهده الشيخ تميم، آخر المفاجآت المدهشة لهذه الدولة التي بدت أكبر من حجمها، وأكثر فاعلية من شقيقاتها كافة. وهو أمر يدعو إلى الإعجاب أكثر، إذا ما استعدنا إلى الذاكرة مقاليد الحكم الراسخة في الديار العربية، التي لا يتخلى الحاكم فيها عن صولجانه إلا بالموت الطبيعي أو بانقلاب عسكري مباغت.
لقد جرى تعليل هذه الواقعة النادرة في الحياة السياسية العربية تعليلات شتى، أحسب أنها أتت وفق قراءات رغائبية وأهواء سياسية تلائم المواقف المسبقة لدى كل من لديه وجهة نظر نقدية، حتى لا أقول عدائية، إزاء سياسات قطر الخلافية، بما في ذلك سياساتها حيال "الربيع العربي" عموماً، و"الربيع السوري" على وجه الخصوص، وظهورها كقوة دفع لا تنضب وراء الحراكات الشعبية المناهضة لأنظمة الحكم الاستبدادية.
وليس مهماً الغوص عميقاً في بحر الدوافع الكامنة خلف هذا القرار غير المسبوق، ولا دفع المزيد من التكهنات حول أسباب هذه الخطوة الخارجة عن مألوف الحالة العربية السائدة. فالأهم من كل ما قد يخطر على بال المراقب الموضوعي، هو الواقعة بعينها، ومن ثم، ما قد تشي به من دلالات، وينبني عليها من متغيرات، لا تخص قطر في حد ذاتها، بل تطال الكثير من السياسات والمواقف والأدوار التي نهضت بها الإمارة الصغيرة بشجاعة جلبت لها الحسد والغيرة والعداوات السياسية.
وهكذا، فإن قطر التي أدهشت نفسها وعالمها العربي حين أطلقت قناة الجزيرة في حينه، وبدلت واقع الإعلام العربي تدريجياً، وأشاعت مناخات الرأي والرأي الآخر لأول مرة في هذه الصحراء المسكونة بالقهر والقمع والأحادية، تابعت على مدى السنوات الماضية سياسة تدخلية اقتحامية في سائر الموضوعات والخلافات الداخلية؛ أرضت النخب، وأفزعت الحكام، وجعلت من الدولة الخليجية هذه لاعباً مهماً في مختلف القضايا الإشكالية.
صحيح أن خصوم قطر وأعداءها باتوا اليوم أكثر بكثير من مريديها، وأن هناك اليوم قوى سياسية ونخباً فكرية انتقلت من كيل المديح لأمير المقاومة وبلد الممانعة، إلى هجاء الدولة التي تستضيف أكبر القواعد الأميركية؛ إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الذين يستكثرون على قطر روح المبادرة، ويشجبون مساهمتها الإيجابية في الربيع العربي، ما كان لهم أن يؤولوا الانتقال الطوعي للحكم بين الأب وابنه بمثل هذه المقاربات، لو أن الدوحة مالأت بشار الأسد، وخذلت الشعب السوري في ساعة محنة شديدة.
وأحسب أن هذا هو بيت القصيد في كل ما تغص به أعمدة الصحف والمواقع الإخبارية من حكايات لا سند لها في تفسير سابقة غير مسبوقة لدى كل صاحب سلطة، حتى وإن كان مديراً عاماً في مؤسسة خدمية، فما بالك إذا كانت السلطة مصدر جاه ومال ونفوذ، لا يعرف بهرجتها ومغانمها إلا من رفل طويلاً في ثوب عزها، وأمسك بعصاها السحرية، وساس فيها البلاد والعباد بدون مساءلة، على نحو ما كان عليه واقع السلطات العربية قبل الربيع العربي.
وأياً كانت آراء المعجبين بسياسة قطر الخارجية، أو كانت درجة كراهية مبغضيها، فإن ما واصلت هذه الدولة الخليجية المتحدية بعثه من مشاعر الدهشة التي تخالطها الصدمة وعدم الفهم أحياناً، يتحول، عقب نقل مقاليد السلطة بسلاسة شديدة، إلى حالة إبهار تخطف الأبصار، لما تنطوي عليه هذه الخطوة التي لا يمكن لواحد منصف رميها بأي عيب، إلا إذا كان هذا الواحد في وضع من لم يجد في الورد من عيب، فقال له "يا أحمر الخدين".
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي