حتى وقت قصير، بدا لي القرار الأوروبي المتعلق بتشديد دول "الاتحاد" مقاطعتها صادرات المستوطنات الإسرائيلية، أشبه بجائزة ترضية صغيرة؛ كحبّة "ملبّس" تذوب تحت اللسان سريعاً. وهو ما جعلني أُعرض عن متابعة تفاصيل هذا القرار طوال مرحلة الإعداد له، والتي طالت لنحو عامين؛ فوق أنني كنت متشككاً بمصداقية 28 دولة متباينة السياسات والأهواء بشأن إجراء عقابي ملموس ضد إسرائيل بعينها، يتجاوز حدود ما درجت عليه المفوضية الأوروبية من بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.
غير أنه عندما تم اعتماد هذا القرار، بنشره في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي قبل أيام، اختلفت الرؤية وتغير التقويم حيال هذه الخطوة الأوروبية الصغيرة، بل وارتفعت درجة التقدير تجاه هذه السابقة غير المسبوقة في سجل العلاقات المديدة بين إسرائيل ودول القارة العجوز، التي كانت الرافعة التاريخية الأولى لقيام الدولة العبرية، وظلت تربت على كتفيها طوال الوقت، إلا من بعض البيانات الانتقادية الملطفة التي كانت إسرائيل تعرف كيف تحيلها إلى مادة أرشيفية يعلوها الغبار.
والحق أن مرد هذا التغير في زاوية الرؤية حيال هذا القرار لم يكن نتيجة جهد شخصي، وإنما كان بفعل ما اطلعت عليه من ردود سياسية إسرائيلية بالغة الانفعال، وما وقفت عليه أيضاً من مقالات غاصّة بالغضب الهستيري، حفلت بها الصحافة العبرية عشية صدور القرار، الأمر الذي فتح العينين على جوانب لم تكن معلومة لديّ من قبل، وكشف عما لم يكن مدركاً لي من أبعاد وحيثيات انطوى عليها مشروع القرار الذي لم ينل في حينه اهتماماً كافياً من جانب المراجع السياسية والإعلامية الفلسطينية.
وإذا كانت حملة الردح السياسي الإسرائيلية حيال القرار الأوروبي متوقعة سلفاً، وهو الذي أثار صدمة شديدة في أوساط السياسيين والكتّاب الإسرائيليين الذين تبارزوا في إظهار صدمتهم وعدم استيعابهم، حتى لا نقول عدم تصديقهم لاعتماد هكذا قرار ضد من يرون أنفسهم فوق القانون الدولي، إلا أن ما لم يكن متوقعاً أن تشن إسرائيل حملة ازدراء وترفّع عن الأوروبيين، تشي بالغطرسة والتبجح، وتنم عن الاستعلاء على من حسبت نفسها عليهم، تذكّر بتلك الحملة العنصرية التحقيرية ضد الدول الأفريقية غداة قطع علاقاتها مع إسرائيل عقب حرب أكتوبر 1973.
وبالعودة الى القرار ذاته، فإننا نجده يعادل قرار الأمم المتحدة قبل أربعة عقود باعتبار الصهيونية حركة عنصرية، خصوصاً أنه وضع لأول مرة خطاً فاصلاً بين حدود إسرائيل السيادية وبين الأراضي العربية المحتلة العام 1967، وأرسى قواعد صارمة لكل اتفاق تعقده الدولة العبرية مع الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، بحيث يستثني اقتصادات المستوطنات وجامعات المستوطنين. أي إن أوروبا لم تعد تعترف بالسيادة الإسرائيلية على الأرض المحتلة وفق تعريف القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، وهو ما يشكل ضربة سياسية تفوق ما اشتمل عليه القرار من خسائر تقدر بنحو مليار يورو.
على أي حال، فإن الاتحاد الأوروبي بقراره هذا، يكون قد تجاوز حدود الدور الذي ارتضاه لنفسه كدافع أموال فقط، ليس له وجهة نظر سياسية في مجريات الأحداث، وانتقل من مجرد شاهد على ارتكابات الاحتلال العنصرية يقول كلمته ويمضي، إلى لاعب يحسب له الحساب، خصوصاً إذا كان هذا القرار قد تم تنسيقه مسبقاً مع الولايات المتحدة التي تبدو إدارتها الحالية أجبن من أن تبادر هي بنفسها، أو أن تفتح على حسابها معركة مع مراكز الضغط الصهيونية في الكونغرس وغيره من مؤسسات صنع القرار الأميركي.
في المحصلة غير النهائية، يمكن تدوين هذا التحول في الموقف الأوروبي على أنه فاتحة لتحول غربي أوسع، قد يحدث ببطء، ويتراكم على نحو تدريجي، في مستقبل غير بعيد، بدأت فيه إسرائيل تستشعر منذ الآن مخاطر عزلتها السياسية، وتتلمس مبكراً عواقب استمرار احتلال يزداد فجوراً ووحشية، على نحو يعيد إلى الذاكرة الإنسانية صور التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ما قبل القضاء على هذه الآفة الشاذة في التاريخ الحديث للبشرية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي