تستكمل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في هذه الآونة الحبلى بأشد الأخطار، تدوين جل عناصر الرواية الملحمية القائمة على احتكار شخصية الضحية البطلة الملهمة للأجيال؛ الباعثة على مشاعر عميقة بالغبن الفادح والاضطهاد، والمؤسسة لخطاب تاريخي مفعم بالندم والتفجع والرغبة في الانتقام. وذلك على نحو ما ظل يستقطره تاريخ الشيعة منذ واقعة كربلاء الفظيعة قبل نحو ألف وأربعمائة عام، كتباً حافلة بصفحات طويلة من وقائع الظلم والتهميش والانطواء على الذات.
ولعل مقومات عناصر الحبكة الدرامية في هذه الرواية القصيرة، في سبيلها الآن الى الانتظار قليلاً، أي حتى انتهاء المشهد الراهن أمام مسجد رابعة العدوية، على نحو قد يكون أكثر إثارة ومأساوية مما كانت عليه واقعة عزل أول رئيس إخواني وحبسه بعد عام فقط على  انتخابه، لاسيما إذا اقترنت هذه النهاية بالعنف الدامي، وسيق قادة الاعتصام إلى السجون، وجرى تقديمهم إلى المحاكمات، وتم حل "الجماعة" وإخراجها من دائرة القانون، وفق ما تشي به كثير من المقدمات والمؤشرات.
إذ يمكن لنا أن نقرأ، مسبقاً، نص فصول هذه المظلومية المرغوب فيها بقوة من جانب سائر فروع التنظيم الدولي، وتقليب فحواه الشعبوي الموظف لاستدرار العواطف الدينية، وتعزيز تماسك البنية الداخلية ضد أي انشقاق، وإلقاء اللوم على حلف الأشرار والمتآمرين، من قوى دولة عميقة وأميركيين وعرب وإسرائيليين، تواطؤوا معاً (كذا) ضد حكم الإسلام، الأمر الذي يطوّب خطاباً يعفي أصحابه من تحمل وزر الأخطاء، ويمنعهم من القيام بالمراجعات، ويحملهم بالضرورة الموضوعية على تعميق مشاعر الكراهية، فضلاً عن الرغبة الجامحة في تسديد الحساب ولو بعد حين.
ومع أن رواية المظلومية هذه قابلة للدحض، ومشكوك في استخلاصاتها النهائية، إلا أنها تظل مؤهلة للتصديق عليها من جانب المؤرخين. فقد عاشت هذه "الجماعة" نحو ثمانين سنة من الحظر والملاحقات، وتعرض بعض قادتها للإعدام، وجرى نفيهم في الأرض، وتصويرهم على أنهم بعبع سياسي يهدد الأنظمة ويقوض الحكومات. ولما لاحت لهم أول فرصة لتسنم مقاليد الحكم، حوصروا على الفور، ومُنعوا من أخذ فرصتهم، وشُهّر بهم من قبل الإعلام، وردهم القضاء، وعاداهم الجيش والشرطة والأمن، مستغلين في ذلك كله سوء الإدارة، وسلسلة طويلة من الأخطاء المميتة.
غير أن هذه الرواية تظل ناقصة، وقد تذهب أدراج الرياح، إذا لم تمتلك جماعة الإخوان المسلمين شروط البناء الدرامي اللازمة لتسويق مرافعتها التاريخية ببلاغة، وتخليدها في الذاكرة الجماعية كمظلومية مكتملة الأركان، بل قد تتحول الرواية إلى حكاية انتحار جماعي إذا ما لجأت "الجماعة" إلى مخزونها من العنف، ومالت إلى الإرهاب كأداة يائسة للدفاع عن النفس، ودخلت في نفق معتم طويل، وعملت بقانون التخويف والتهويل وطلب المستحيل، كإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وشق الجيش على سبيل المثال.
ذلك أن الاشتغال على دور الضحية الأبدية بإتقان، وبناء مقومات رواية المظلومية، المرصعة بصور الشهداء الأطهار، يقتضيان التكّيف مع الضرورات، والتساوق مع الأمر الواقع، وإتقان عملية التقية، والصبر الجميل أمام النوائب، وتدوير الزوايا الحادة، وإجراء ما يلزم من نقد الذات ولومها بصرامة، وذلك على عكس ما تبدو عليه "الجماعة" في طورها الراهن من حالة إنكار تام، ومن رغبة عارمة في توسيع دائرة الخصوم والأعداء، ومن عدم قدرة ذاتية على الإصغاء، والعمل بمنطق أن خسارة الحكم هي نهاية المطاف.
وقد تكون أشد الأخطار التي تهدد بتبديد هذه الرواية التي لم تكتب نهايتها المأساوية بعد، خطر اصطدام "الجماعة" وجهاً لوجه بمؤسسة الجيش، ذي الرمزية الوطنية المجمع عليها، والمكانة الباذخة في وجدان الشعب. وهو أمر من شأنه أن يُدخل أقدم حركة إسلامية وأوسعها انتشاراً في مسار عدمي مثير؛ إن لم يؤد إلى تشتيت بنيتها التنظيمية، ومصادرة ممتلكاتها وأرصدتها المالية، والزج بقياداتها مجدداً في السجون، فإنه سيقوض رواية المظلومية هذه من أساسها، ويفقد الإخوان المسلمين القدرة على الخروج الآمن من أزمتهم، ومن ثم إرجاء عملية التصالح مع المجتمع إلى مدى زمني مديد.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي