لا في حكايات الجدات الفاضلات، ولا في روايات الخيال العلمي، تشرق الشمس بعد منتصف الليل؛ فما هي هذه الشمس التي أشرقت، قليلاً من الوقت، في منتصف الليل الفلسطيني الطويل، وغمرت بضوئها الوهاج عيون وأفئدة أبناء شعب ما يزال مقيماً في نفق معتم، بارد ومديد، ولم يسبق له، إلا لماماً، رؤية الضوء الخافت في آخر هذا النفق الموحش، والاستمتاع إلا برهة بأشعة القرص الذهبي في فناء السجن، تحت الأعين الزجاجية للجلاد المقيم في تلابيب الروح؟
والحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، هي شمس الحرية فقط لا غير، تشرق وحدها بين الفينة والأخرى في دياجير الليل البهيم، وذلك على نحو ما بزغت عليه في منتصف ليلة الثلاثاء/ الأربعاء الماضي، وتوهجت لساعات معدودة في عنان السماء، لقوم كانوا على موعد مسبق مع هذه الواقعة الباذخة، بينهم آباء وأمهات، وكثيرون من رفاق وأصدقاء ستة وعشرين فارساً، نصفهم من أصحاب المؤبدات، تنسموا رياح الحرية، وحُملوا على الأكتاف، واستقبلوا استقبال الأبطال الغر الميامين.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُشرق فيها شمس الحرية على مناضِلات ومناضلين خرجوا من غياهب "باستيلات" الاحتلال البغيض، ليس بفضل كرم من لا يعرف المكرمات أبداً، وإنما بفعل كفاح متنوع الأشكال مجيد؛ فكانت هذه القوافل من الأسرى المحررين، ككل مرة سابقة، بمثابة قوة دفع متجددة لإدامة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وقنطرة رجاء وأمل في أن لليل الطويل آخر، وأن للفجر موعداً قد يتلكأ في الحضور ويراوغ، غير أنه آت بدون ريب، تماماً على نحو ما كانت عليه دائماً المواقيت مع الثوار.
ومن حسن حظ من لم يتمكوا من الانضمام بأنفسهم إلى آلاف المحتفلين الذين عاشوا تلك اللحظة الباعثة على الابتهاج العميم، أنهم ينعمون بزمن القنوات الفضائية، والبث المباشر من عين المكان، الأمر الذي مكنني من رؤية المشهد، مع ملايين الناس المترقبين لرؤية بعض مقاتلي الحرية، وهم يعودون إلى أحضان أعزائهم الدافئة مرفوعي الرؤوس، ويحظون بكل ذلك الاستقبال الحميم في رام الله وفي معبر بيت حانون، كما يليق بالأبطال، وكأن الحفل كان موزعاً على امتداد خريطة اللجوء والشتات.
لقد كانت إسرائيل تدرك سلفاً مغزى تحرير دفعة أولى من أربع دفعات تلي في غضون عدة أشهر، وكانت تعي أيضاً أنها ستخسر معركة الصورة، عندما يحظى الأسرى المحررون بالاستقبالات الشعبية الحاشدة، وهم يرفعون أيديهم بإشارة النصر الشهيرة، ويبتسمون للكاميرات؛ الأمر الذي جعلها ترجئ تلك اللحظة الفارهة إلى ما بعد منتصف الليل، لعل الناس ينصرفون، ويمل المراسلون من الانتظار، ولا تتم التغطية الإعلامية على أحسن ما يكون.
في تلك الساعات من الترقب المشوب بالتوتر والظنون العاصفة والشعور الغامر بالفرح، وددت أن أشاهد كيف سيكون عليه الاستقبال في غزة لخمسة عشر بطلاً من أبطال المقاومة، عائدين إلى أحضان أهلهم المنتظرين تلك اللحظة الكبيرة على أحر من الجمر، لاسيما وأنا أعلم أن هناك من منع إقامة خيمة استقبال في ساحة الجندي المجهول، وحاول كبح جماح أي مظهر من مظاهر الاحتفال. فوجدت أن إعلام سلطة الأمر الواقع مشغول بـ"رابعة العدوية"، فيما تدفق آلاف الناس شمالا إلى معبر بيت حانون، بعيداً عن مركز المدينة الممنوعة من الفرح الجميل.
ولعلها من المفارقات الفارقات أن تسعى إسرائيل إلى التعتيم على هذه المناسبة، بتأخير موعد الإفراج عن الأسرى المحررين إلى أقصى مدى زمني، وأن تحاول ما أمكنها سرقة السعادة من قلوب المبتهجين، وأن تسعى حركة حماس في الوقت ذاته، ولأسباب أخرى تدخل في نطاق الحسابات الصغيرة، والتحسبات من غضب الجماهير المقموعة، إلى التقليل من شأن هذا الحدث النادر في حياة الفلسطينيين، لصالح الانشغال في اعتصامات الجماعة الأم في مصر، والحض على شق الجيش، وعقد الرهان كله على متغير يدخل في باب المستحيل، والبحث عن مخرج من المأزق بالهرولة مجدداً إلى أعتاب طهران.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي