تتشكل في أوساط نخب مصرية نافذة، وتتعمق لدى مراجع توصف عادةً بالسيادية، قناعة نصف معلنة، واستنتاجات غير مكتملة بعد، مفادها أن حسم الوضع الأمني في سيناء لن يتحقق بصورة تامة، بدون حسم الوضع الراهن في قطاع غزة؛ الأمر الذي يتطلب إجراء مراجعات عميقة لكثير من المفاهيم النمطية، وإعادة تقويم للمصالح الوطنية، فضلاً عن فحص حسابات المخاطر القائمة على جانبي الحدود التي نخرتها الأنفاق على مدى السنوات الطويلة الماضية.
وأحسب أن هذا التوجه الذي أخذ يتكون ببطء لدى الطبقة الحاكمة في مصر، بعد 30 حزيران (يونيو) الماضي، وراح يراكم نفسه حثيثاً على وقع التطورات الأمنية المتفاقمة، هو توجه لا يتمنى المضي به أحد من الفلسطينيين داخل غزة أو خارجها، لما قد يسجله هذا الانزلاق الخطير من سابقة غير مسبوقة في علاقات القطاع المحكوم بأقداره المصرية، مع الدولة التي خاضت أربع حروب كبيرة مع إسرائيل، واستحقت لقب الشقيقة الكبرى بكل جدارة.
غير أن ما يخشاه كل الذين يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يشاهدون هذا التصعيد الكلامي بين حكومة الأمر الواقع في قطاع غزة، أو قل الجناح المسلح الوحيد لحركة الإخوان المسلمين الدولية، وبين دولة التسعين مليون نسمة، هو أن تكون قناعة الحسم المتشكلة حول وحدة المسارين وحتميات الأمن المتلازم بين غزة وسيناء، قد قطعت كامل الشوط في عقل الدولة العميقة، وبات إخراجها إلى حيز التنفيذ مجرد مسألة وقت، قد تلي مرحلة إحكام السيطرة على معاقل المتطرفين الرئيسة.
وليس من شك في أن توغل الدبابات أو قذائف المدفعية، ناهيك عن تحليق الطائرات المصرية المقاتلة في سماء غزة، يعتبر بكل المعايير قراراً ثقيل الوطأة على وجدان المصريين، يؤذن بتحول غير مرغوب فيه حتى لدى أشد المروجين لهذا الخيار العنيف في الغرف المغلقة، وينذر بمضاعفات لا يمكن التنبؤ بها، قد لا تطال حكومة غزة المقالة فحسب، وإنما قد تشمل حياة سكان القطاع المحاصر أيضاً، ناهيك عن إضراره بصورة مصر الباذخة لدى الفلسطينيين عموماً.
لذلك، فإن من غير المتوقع أن يقع هذا التطور الصادم لكل مشفق على غزة من عقابيل هذا التحول الكارثي في المدى المنظور، وأن يظل وقوع هذا الأمر المحذور مرهوناً بحدوث واقعة أشد استفزازاً من الاستعراضات العسكرية الحمساوية المتكررة على تخوم الحدود، أو اكتشاف المزيد من الأسلحة المهربة من كتائب عزالدين القسام للمنظمات "القاعدية" في سيناء؛ كأن يتم التأكد من وجود المرشد العام الجديد في غزة مثلاً، أو أن تتدخل منظمة تعمل كمقاول من الباطن لحركة حماس، وتقامر بالقوة النارية لعرقلة إتمام إقامة المنطقة العازلة بين رفح المصرية وشقيقتها الفلسطينية.
غير أن الضحية الأولية لمثل هذا التوجه الجديد في مصر، قد لقيت مصرعها بالفعل، ونعني بها جهود المصالحة الفلسطينية التي أصبحت منذ الآن في خبر كان بالنسبة للقاهرة؛ الراعية التاريخية لهذه الجهود المتعثرة. إذ قد لا تجد القيادة المصرية مصلحة لها في إعادة تعويم "حماس"، وفك عزلتها التي تفاقمت بعد سلسلة طويلة من خساراتها الإقليمية. بل قد تجد هذه القيادة المستهدفة، إعلامياً على أقل تقدير، من جانب أقرب فروع الإخوان المسلمين لحدودها الدولية، منفعة سياسية لها في تقويض أركان وضع يعمل على تسوّد وجه ما تسميه "حماس" بالانقلاب، ويناصب ثورة الثلاثين مليونا العداء على رؤوس الأشهاد.
وعليه، فإن كل الدعوات المخلصة لحكومة "حماس" بالكف عن هذا العداء المجاني مع شعب مصر وجيشها وقضائها وإعلامها، ذهبت أدراج الرياح، ليس لأن "حماس" لا تعي في قرارة نفسها أن عقارب الساعة المصرية لن تعود إلى الوراء، وأن فداحة إحكام رتاج باب السجن عليها أمر لا يُطاق وليس فيه عزاء، وإنما لأن الذين أقسموا يمين السمع والطاعة، وقدموا مصلحة الجماعة على كل اعتبار فلسطيني، ليسوا في حِلّ من أمرهم، ولا في حولهم القدرة على التفكير خارج الصندوق الإخواني المغلق على رهانات انتحارية بالمجان.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي