غداة اعتصام جماعة الإخوان المسلمين ومناصريهم في تقاطع "رابعة العدوية"، قبل نحو مائة يوم، كانت المادة الخام متوفرة بكثرة لكتابة نص جديد باذخ في باب رواية المظلومية التاريخية، المشتهاة لكل صاحب حق مغلوب على أمره، خصوصاً من قبل قادة "الجماعة" الذين أتوا، كما في المأثورات الإغريقية، من غياهم السجن إلى سدة الحكم، ثم عادوا إليه مجدداً، وذلك في غضون سنة سماها المصريون "سنة كبيسة".
كان الشرط الوحيد لنجاح "الإخوان" في كتابة نص مظلوميتهم هذه، يتمثل في تجنب الانجرار نحو العنف، وعدم الاصطدام مع قوى الدولة العميقة؛ أي التمسك بسلمية الاعتصام تحت كل الظروف، وسحب كل ذريعة لفض الاعتصام بالقوة، لا جعله بؤرة تهديد ووعيد، ومطرحاً للمكاسرة؛ وإنما استثمار ذلك الحشد الكبير من أجل تحسين شروط المساومة، وطلب التفاوض، وانتزاع المطالب، وتعديل ميزان المرحلة اللاحقة لزمن انقضاء فترة حكم "الجماعة".
غير أن الاستسلام لنوازع العنف القديمة الكامنة، ورفع المزيد من الشعارات التعجيزية، ناهيك عن محدودية فهم استحقاقات تلك اللحظة التاريخية، تضافرت معاً لتفويت الفرصة السانحة، بل وتحويلها إلى محنة أخرى أليمة حلت بهذه "الجماعة" التي كانت كثيراً ما تخطئ بحق نفسها، بدون أن تتعلم شيئاً من دروس أخطائها؛ وكانت تعول أيضاً بشدة على رهانات ليست كلها في متناول اليد، بما في ذلك الرهان على تحالفها مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة.
ما إن تشتت الجمع في "رابعة"، بعد سلسلة من المكاسرات الموضعية المتفرقة مع الجيش والأمن وبعض الأوساط الشعبية، حتى وقع الإخوان المسلمون في المحذور، حتى لا نقول الخطأ المميت؛ حين ربطوا بينهم وبين الإرهاب الذي انفجر في سيناء دفعة واحدة، وطالت شظاياه مقرات الشرطة والكنائس ومحطات "المترو" وغيرها، في عدد من المحافظات المصرية. الأمر الذي وفر لكل الذين كانوا يسنون أسنانهم على "الجماعة" المتحدية، الفرصة المواتية لإنزال الضربة الكبيرة بها، وإخراجها عن القانون لمرة ثالثة.
هكذا جاء الحكم القضائي بحظر تنظيم الإخوان المسلمين مؤخراً، ليكتب فصلاً جديداً في مسار هذا التنظيم وهو في أسوأ حالاته؛ إذ قياداته معتقلة، وكوادره مطاردة، ومصادره المالية مجففة، وعداواته مستحكمة، ليس فقط مع قوى الدولة الراسخة، وإنما كذلك مع الناس الذين ملّوا من تنغيص حياتهم بالمظاهرات الطيارة، وساءت ظروف معاشهم جراء الاضطرابات المتواصلة. وفوق ذلك كله، تجلت عدمية المطالبة بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بل وحتى البقاء فوق قواعد اللعبة السياسية الداخلية.
ومع ذلك، فإن ردود الفعل الأولية للجماعة التي ما تزال في طور الصدمة، غير مصدقة ما آلت إليه أحوالها بعد كل ما ارتكبته من أخطاء قاتلة، تبدو ردوداً انفعالية غير مستوعبة لحقيقة أنها دخلت في طور الخسارة الشاملة، منذ أن تخلت عن أوراقها القوية في حشد "رابعة"، ومالت إلى اختبار القوة مع الدولة المركزية، ثم انزلقت إلى الصدام مع القوى المدنية، وتجاهلت كل الرسائل التي حطت في صندوق بريدها؛ وكان الاستماع لأي رسالة كفيلا بتقليل حجم الكارثة.
ونظراً لواقع أن "الجماعة" في مصر هي أم الجماعات الإسلامية الفرعية، فإن من المقدر لهذا المسار العصيب الذي دخلته الأم في بيت أبيها الأول، أن يُنذر بفتح مسارات قد تكون مماثلة لمعظم الفروع الإخوانية الخارجية، لاسيما أن أغلب هذه الفروع يتجاهل الرسائل المتلقاة، ولا يحسن قراءتها إذا فتح واحدة منها. وليس أدل على ذلك، مثلاً، من حالة الذهن المغلقة المتحكمة بحركة حماس، وهي تواصل عروضها العسكرية الاستفزازية في رفح وغزة.
خلاصة القول أن فشل الإخوان في الحكم، وفشلهم كذلك في تقليل حجم خسارتهم المتفاقمة، وسقوط رهاناتهم على الخارج، أدت مجتمعة إلى إضاعة الفرصة التي لن تتكرر لكتابة نص مظلوميتهم، بل أدت إلى دخولهم في محنة قد تطول كثيراً، وإلحاق أشد الضرر بفروع التنظيم الدولي؛ هذه الفروع التي سوف تجد نفسها في وضع فرع الشجرة التي تحطب جذعها، فتذبل سيقانها، وتصفر أوراقها، وتدخل في حالة من التيبس التدريجي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي