فيما كنت استمع إلى إذاعة "مونتي كارلو"، قبل عدة أيام، انخرطَت مذيعات النشرة المسائية في نوبة ضحك مفاجئة، عندما نقلت إحداهن خبراً عن الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، يتحدى فيه أن يكون رجل (زول) في بلاده قد سمع، أو استمتع مرة بوجبة "الهوت دوغ" قبل توليه مقاليد السلطة منذ نحو ربع قرن مضى. مضيفاً أن أبناء شعبه قد أصبحوا اليوم أكثر بطراً، بتفضيلهم تناول مثل هذه الأكلة الفاخرة بالمعايير السودانية.
وبقدر ما بعثت عندي تلك الضحكات غير اللائقة، الآتية عبر الأثير، مزيداً من الإشفاق على السودانيين "الأوادم" المحترمين، الذين بلغ بهم الإسراف في الترف الاستهلاكي حد الإكثار من التهام إحدى الوجبات السريعة، غير المفضلة لدي؛ بقدر ما بعث المشهد السوداني المتشكل منذ عشرة أيام وأكثر، صوراً مماثلة إلى أبعد الحدود للمشهد السوري وهو في طوره الأول قبل نحو ثلاثين شهراً، يتكون من متظاهرين سلميين يدعون إلى الإصلاح ليس إلا.
قلت في نفسي، وأنا اتابع تطورات ما بدا على الشاشات أنه ربيع سوداني تأخر بعض الشيء: أعلم أن الطغاة ليسوا حكماء ليتعظوا من أنفسهم، ولكن لماذا لا يتعظ هؤلاء من تجارب غيرهم؟ ولماذا يرى هؤلاء المستبدون أن أنظمة حكمهم دائماً مميزة ومختلفة عما هي عليه الحال لدى أنظمة حكم مشابهة عند نظرائهم، مع أنها تكاد تكون نسخا كربونية من حيث طول مدة الحكم، وسورة القمع، ومبلغ الفساد وشدة الفقر، وغير ذلك من الروافع السياسية والاجتماعية التي أطلقت موجة "الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا واليمن؟
والحق أن أكثر ما لفت انتباهي، وربما انتباه الأكثرية من المراقبين، ذلك التماثل حد التطابق التام، بين السيرورة التاريخية للربيع السوري، الذي بدأ على شكل مطالب شعبية متواضعة، ثم آل إلى تمرد مسلح لا يمكن احتواؤه، وبين مقدمات ربيع سوداني في طور التحقق، بدأ هو الآخر على شكل احتجاجات طلابية ضد رفع أسعار المحروقات، ثم أخذ يتحول بسرعة إلى انتفاضة جماهيرية تتسع نطاقاً يوماً بعد يوم، تطالب هي الأخرى بإسقاط النظام، وتنذر بانفجار قد يشب عن الطوق سريعاً.
إذ يمكن لعين المراقب أن ترى ذات البواعث والعوامل، ونفس المتغيرات والقواسم، التي تراكمت على الساحتين السورية والسودانية، بصورة تلقائية؛ وأن يشاهد كل ذي بصيرة أن عمر حسن البشير يتنقب طريق بشار الأسد بكل أمانة، ويقلده خطوة بخطوة، ليس فقط لجهة الاستخفاف بالاحتجاجات الشعبية، والعناد في الاستجابة للمطالب البسيطة، والانقطاع عن الواقع، وإنما كذلك لجهة استخدام الحل الأمني ذاته بكل فظاظة، وقمع الإعلام وإغلاق الصحف، ناهيك عن إحالة الأمر إلى مندسين هنا ومخربين هناك، وإلى طرف ثالث ومؤامرة خارجية في كلا البلدين المتباعدين.
ولعل أهمية ما تجري فصوله الآن في السودان، حيث أكثر أنظمة حكم الإسلام السياسي فشلاً على الإطلاق، هو أنه يأتي في أعقاب انكسار الحلقة الكبرى لهذه الأنظمة في مصر، وأنه يترافق مع اهتزاز الأرض تحت حكم مماثل في تونس، وضمور النموذج التركي كمثال ملهم للعرب، واختناق تجربة حكم من الفصيلة ذاتها قائم بقوة الحديد والنار في قطاع غزة المحاصر؛ الأمر الذي يشير إلى قرب غروب شمس هذه الظاهرة التي بدت في وقت من الأوقات وكأنها القدر المقدّر للربيع العربي كله.
ومع كل ذلك التماثل المؤسف حقا، فإن الأمل معلق بقوة على ألا يحدث في السودان حمام دم مشابه لما يجري الآن في سورية، وأن يتمكن هذا الشعب الذي أسقط في السابق حاكمين عسكريين مستبدين بالمظاهرات السلمية، من خلع حكم البشير بالنهج ذاته، لاسيما أن هذا البلد العربي الأوسع مساحة قبل انفصال جنوبه كرمى لعين بقاء البشير في السلطة، ليس فيه تنوع طائفي أو مذهبي، أو جيش عقائدي، أو غير ذلك من الخصائص التي انفرد بها النظام السوري عن غيره من الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي