بعد مرور نحو أسبوعين على التصريح المفاجئ الذي أطلقه زياد الرحباني، فيما يخص الميول السياسية لأمه العظيمة فيروز، وانقشاع سحابة الدخان الخفيفة تلك سريعا؛ يتضح الآن أن هذه الشرارة الصغيرة لم تشعل حريقا كبيرا، وإن كانت قد خلفت وراءها بعض الذيول المتفرقة، وأثارت بعض السجلات البغيضة في أوساط النخب السياسية والثقافية العربية، لاسيما اللبنانية منها، والسورية على وجه الخصوص.
وبمراجعة معظم ما تم نشره حول هذه المسألة من تعقيبات رصينة، وأخرى كيدية ساذجة، يتبين لنا أن أحدا لم يتجاوز على حق الفنانة فيروز في التعبير عن رأيها، أو يجرؤ على المس بمكانتها السامقة في الوجدان العام. بل إن جميع من وجدوا أنفسهم مخاطبين بهذه المسألة الخلافية، كانوا حريصين على النأي برفيقة صباحاتهم المبكرة هذه عن مباذل السياسية اليومية ونجاساتها.
اذ بدا أن الاعتراضات هنا منصبة على توقيت إشهار هذا الانحياز، وليس على لب الموضوع ذاته. فقد كان من الواضح أن ابن السيدة التي قد لا يختلف على حبها اثنان في العالم العربي، أراد أن يوظف المنزلة الرفيعة لأمه في إطار إشكالية سياسية قائمة، يتخذ فيها زياد الرحباني موقفا صادما لبيئته الثقافية والفنية، بعد أن خرج من جلده، وبدا كأنه الطائر المغرد خارج سربه.
ولا أحسب أن كشف ميول فيروز السياسية كان يمكن له أن يثير أدنى خلاف لدى الرأي العام الثقافي، لو أن السيدة المسكونة بصمتها التقليدي القديم، قد باحت به بعد صمود حزب الله أمام العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006، حين كانت راية المقاومة تخفق في أعالي السماء، وكان "سيدها" يحظى بتأييد وتعاطف عربيين لم يحظ بهما من قبل سوى جمال عبدالناصر.
أما أن يختار الولد الشقي هذه اللحظة السياسية الملتبسة، للتمترس خلف أمه من أجل ترجيح رأيه، والذود عن انحيازاته المستهجنة في وجه خصومه، فذلك هو بيت القصيد في كل هذه الإثارة المفتعلة، خصوصا بعد أن انقلب حزب الله نحو الداخل اللبناني، ثم تورط لاحقا في حرب ذات رائحة مذهبية كريهة، عندما أدار بندقيته من الجنوب، حيث الساحة التي بررت وجود هذه البندقية، إلى صدور السوريين تحت ذريعة حماية مقام السيدة زينب، وبعضهم يقول حماية قصر الرئاسة.
وهكذا، جاءت الحفاوة والترحيب الغامرين بإعلان زياد عن الأفضليات السياسية لفيروز، من جانب الممانعين ورهط من الكتاب ذوي الثقافة الإقصائية المنغلقة على عوالمها الظلامية، أشبه برقصة غجرية مرتجلة، تُقام أمام دار أوبرا فارهة، تجري على خشبتها حفلة لفرقة أوركسترا هارمونية. الأمر الذي تكفل وحده بإظهار مدى الفجاجة المشهدية، واتساع بون الشقة بين عالمين ثقافيين لا يمتان لبعضهما بعضا بأي صلة.
ومع ذلك كله، فقد بقيت فيروز الاستثنائية، التي لا نختلف عليها كفنانة فريدة في عصرها، وإن كنا نختلف مع ميولها السياسية المعلن عنها، خصوصا في هذه الآونة الحرجة، خارج سياقات هذه السجلات المفتعلة، حيث لم يتعرض لها ناقد ساخط على تماثلها مع حزب الله في زمن البراميل المتفجرة، ولم يصادر أحد حقها المشروع في التعبير عن عاطفتها السياسية، فيما انهال الغضب كله على الابن الذي راح يستثمر قرضا ثمينا في غير محله، ويضع أمه في موضع إشكالي كانت في غنى عنه.
يبقى أن ما هو أسوأ من إعلان زياد الرحباني عن إعجاب فيروز بحزب الله في هذه المرحلة من حربه الكربلائية ضد يزيد بن معاوية، أو قل ضد الشعب الذي سبق له أن احتضن جمهور هذا الحزب، رده الشائن على منتقدي اصطفافه مع القتلة، بالقول إنه لو كان حاكما في دمشق لفعل ما هو أشد وأقسى، أي إنه كان سيستخدم، مثلا، السلاح الكيماوي على نطاق أوسع في الغوطة، وأنه سيدمر حمص وحلب ودرعا بالمزيد من البراميل، وبما هو أفظع من صواريخ "سكود"، وأشد هولا من قتل المعتقلين في أقبية التعذيب، أو قل داخل المسالخ البشرية المعتمدة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   عيسى الشعيبي