يتفق خبراء الطب النفسي أن المقامر إنسان مريض، يستحق الإشفاق أكثر من البغض والازدراء. وهم يُجمعون على أن أصحاب هذه الحالة الشائعة لدى قلّة من الناس، متحدرة من فئات متفاوتة الدخل والتعليم والمكانة الاعتبارية، هم الاستثناء على القاعدة الاجتماعية العريضة التي لديها ثقافة عامة، وتقاليد متوارثة، وروادع دينية، وتنبذ المدمنين على القمار، وتُنزلهم المنزلة الأدنى على سلّم التراتب الاجتماعي.
وليس من شك في أن حالة المدمن على ألعاب القمار هي حالة غير سوية، ذهنياً وصحياً؛ وأن شفاءه الذي قد يكون بطيئاً ومكلفا، يتطلب علاجاً "إكلينيكياً" في المصحات الخاصة بهذه العلة العصابية، خصوصاً إذا كان هذا الداء قد استفحل بصاحبه ردحاً من الوقت، وكان المصاب قد بدأ يسترد وعيه، ورغب لأسباب ذاتية وموضوعية قاهرة، في التخلص من مرضه، وبالتالي استعادة احترام ذويه وأصدقائه.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فيقتضي القول إنه يوجد في موازاة المقامر الموصوف آنفاً، مقامرون عموميون إن جاز التعبير، يتوزعون على شتى مناحي الحياة ومختلف دروبها اليومية. وفي الوقت الذي يكون فيه نطاق المقامرات الفردية ضيقاً ومحدود الأثر، تكون المقامرات الأخرى ذات مدى أوسع، ومضاعفاتها أشد وبالاً على محيط يضيق ويتسع بحسب أهمية المقامر، الذي قد يكون مديراً تنفيذياً، أو رئيس حزب، أو مسؤولاً حكومياً.
وإذا كانت المقامرة على الموائد الخضراء هي أكثر ما يرد إلى الأذهان حين نتحدث عن المقامر الفرد، الذي لا يحسن الحد من خسارته؛ فيكابر ويلقي اللوم على ساعة نحسه في العادة، فإن المقامرين في التجارة والسياسة والإدارة مثلاً، لا يندرجون في إطار واحد، ولا يُشخّصون سلفاً، بل لا تلتصق بهم مثل هذه الخاصية المذمومة إلا عندما يتحقق الفشل، ويخرج إلى العلن في صورة نتائج مؤلمة تطال كل من في محيطهم الواسع.
في هذه المطالعة، نحن معنيون بالمقامرة السياسية فقط، خصوصاً لدى الأحزاب والمنظمات والجماعات المسلحة، وغيرها من الكيانات غير الرسمية المفعمة بروح المغامرة والارتجال، والمراهنات على متغيرات ليست تحت نطاق السيطرة. إذ يمكن لعين القارئ أن ترى ذلك، كله أو بعضه، في مظاهر العناد والمكابرة، وحالات إنكار الواقع، والهروب إلى الأمام، وغير ذلك مما يملأ الفضاء من خطابات تعج بالمبالغات الشديدة، ناهيك عن التهديد والادعاءات السقيمة.
وبالانتقال من التعميم والتجريد النظري إلى الواقع التطبقي، فإنه يمكن إحصاء عدد وافر من هذه المنظمات والجماعات، التي تستحق كل واحدة منها على حدة، إجراء مطالعة خاصة بها. لذلك، فإننا سنأخذ مثالاً تطبيقياً واحداً أكثر جلاء من غيره، ونعني به حالة حزب الله في طوره الراهن؛ أي بعد أن انخرط بعدته وعديده في حرب مفتوحة، أو قل في مقامرة عسكرية كبرى، ضد الثورة السورية التي شبّت عن الطوق تماما، وباتت الآن قوة غير قابلة للكسر أو الاحتواء أبدا.
ولعل روح المقامرة لدى حزب الله هي أكثر النماذج العملية الملموسة على استفحال مرض العصاب السياسي غير القابل للتشخيص في عيادة طبيب، وإنما في منظور مؤرخ، أو لدى مراقب سياسي حصيف، قد لا يستعصى عليه فهم هذه الحالة التي يتمظهر فيها حزب مسلّح لجماعة صغيرة، بمظهر قوة إقليمية كبيرة، تخوض حرباً استباقية مجنونة، لا تقوم بها سوى دولة كبرى ذات تراث استعماري بموارد لا محدودة، تحت زعم أن لديها مصالح استراتيجية تقع في مجال حيوي أبعد من حدود رقعتها الجغرافية.
وأحسب أن حزب الله الذي كان في يوم ليس بعيداً، بمثابة أيقونة للمقاومة ضد إسرائيل، قد انزلق في لحظة عماء بصيرة شاملة، وموجة هياج مذهبي كريهة، إلى هذه الوهدة السحيقة، من فعل المقامرة برصيد باذخ، واستنزاف لموارد شحيحة، وتهديد لمصير مستقبلي برعونة، ثم راح ينكل بصورته بيده، ويجلب السيارات المقنبلة إلى أحضان بيئته الاجتماعية، في إطار مشهد واسع، يمكن فهم مكوناته بسهولة وسبر غوره بيسر، من خلال إحالة الأمر كله على سوء القراءة التاريخية، وروح المقامرة السياسية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد عيسى الشعيبي