باستثناء بعض المقالات القصيرة والتعليقات السريعة العابرة لم أقرأ حتى الآن تحليلا جادا أو دراسة علمية لظاهرة الانقلاب على الذات، رغم ما تمثله هذه الظاهرة المتفشية عربيا من استفزاز واستهتار بذاكرة المتلقي وذكائه. ولا أعرف إن كانت هناك دراسات غربية حول هذا الموضوع لكنني أشك في أن تكون الظاهرة موجودة أصلا في مجتمعات تحترم ديمقراطيتها وتمارسها قولا وفعلا.
في بلادنا التي تعيش بين الماء والماء بقوة دفع الشعارات، يتغير الشعار عندما يتغير صاحبه، وتتعود الحناجر بسرعة مدهشة على استساغة الهتاف بالنقيض وللنقيض. رأينا هذا الانقلاب الشعاراتي في مواقف الكثيرين من نجوم الإعلام المصري الذين انفضوا عن النظام عند سقوطه وتمترسوا في مكاتب تحرير الصحف واستوديوهات الإذاعة والتلفزيون، ولم يخجلوا من الانقلاب العلني على ذواتهم والتحول من منظرين للنظام إلى مبشرين بالثورة!
تكرر المشهد في ليبيا، وكان قد حدث قبل ذلك في العراق، وربما نراه في سورية واليمن، ولن نتوقف لحظة واحدة أمام هذا التحدي الفج لمشاعر الناس، لأن الأمر صار مألوفا، ولأن إعلاميي الحكومات يغيرون مواقفهم مثلما يغيرون جواربهم بسهولة يحسدهم عليها المثاليون الذين لم يكتشفوا حقيقة الارتباط بين الموقف والمصلحة.
لا ينحصر الأمر في الإعلاميين المحترفين أو المنحرفين، بل تمتد الظاهرة إلى شخصيات سياسية ووزراء يتولون إدارة الإعلام الرسمي ومجالات حيوية أخرى في الحياة العربية، كالعمل الأمني والاقتصادي وحتى الثقافي. 
في الذاكرة تجربة مع وزير سابق يقدم نفسه حاليا كمناضل قومي. كان معاليه في الثمانينات وزيرا للاعلام، وقد أعجبته مقالة طويلة للكاتب المصري ابراهيم سعدة تضمنت بلاغة وصلت حد الوقاحة في شتم الشعب الفلسطيني والتشفي بشقائه بعد احتلال فلسطين. وقد أراد معالي الوزير إعادة نشر المقالة السعدوية في الصحف الأردنية فرفضت صحيفتا "الرأي" و"الدستور" رغبة معاليه، وقبلت الطلب الوزاري صحيفة "صوت الشعب" التي كنت أعمل فيها محررا في صفحات الأخبار العربية والعالمية، ونشرت المقالة المسيئة التي أثارت غضب القراء واستهجانهم، وأحرجت كل من يعمل في تلك الجريدة التي استهدفت بطواقم من الإدارات السيئة حتى توفاها الله. 
بعد أسابيع من نشر المقالة فقد معالي الوزير وظيفته ولقبه وخرج من وزارة الإعلام ليعود مواطنا يطرح رأيا غير ملزم للحكومة. وكان أول ما فعله هو إعلان البراءة من المسؤولية عن نشر ما اقترف المدعو سعدة الذي كان من أشد المدافعين عن اتفاقات كمب ديفيد. وبالفعل تولت وكالة أنباء أجنبية نشر "إعلان البراءة" هذا. وكان مطلوبا منا أن نصدق!
وزير إعلام آخر تولى الحقيبة في التسعينيات، هاتفني ذات ليلة صعبة ليطلب مني شطب مادة صحفية كان مقررا نشرها في اليوم التالي في صحيفة أسبوعية، كانت في ذلك الوقت كبيرة ومؤثرة. ولما اعتذرت لمعاليه عن عدم قدرتي على شطب المادة لعدم قناعتي بمبرر الشطب، لجأ معاليه إلى مخاطبتي بمفردات لا تليق بالوزراء ولا بمديري التحرير.. وفي صباح اليوم التالي كنت أقرأ لمعاليه تصريحا في صحيفة يومية يؤكد فيه بلا وجل أن وزارة الاعلام لا تتدخل في الصحف!
خرج الرجل من الوزارة بعد حين، وتفرغ لنقد الأداء الاعلامي العربي الضعيف والخانع!
هناك نماذج أخرى لا اريد الاشارة اليها حتى لا اتهم بالكراهية لأصحاب المعالي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   فؤاد أبو حجلة