نرى نماذج مختلفة للإسلام السياسي، أقربها إلينا هو النموذج التونسي المعتدل الذي يتعهد علنا بالحفاظ على الدولة المدنية، ويدرك قيمة الحرية في مجتمع ساحلي منفتح على أوروبا ومتمسك بهويته العربية والإسلامية في ذات الوقت. وأبعدها عنا هو النموذج السلفي المتطرف الذي يقدم النقاب على رغيف الخبز، ويهتم بقوننة منع الاختلاط في المدارس والجامعات أكثر من منع التزوير في صناديق الاقتراع، وينهمك في تحريم ما كان مباحا تحت حكم الطغاة في تونس ومصر وغيرهما.
كنا في السابق نستشعر خطورة امتداد التيار السلفي في الشارع العربي، خاصة بعد ظهور تنظيم "القاعدة" ولجوئه إلى الإرهاب الذي طالنا أذاه في تفجيرات الفنادق، لكننا لم نتصور أبدا أن يستطيع السلفيون تحقيق هذا الحضور اللافت الذي عبر عن نفسه في الانتخابات المصرية، وجسد قوته في الجامعات والأسواق في تونس، واستعرض هذه القوة قبل ذلك في الزرقاء، في محاولة لاستغلال الحراك الإصلاحي في البلاد. ويبدو أننا كنا مخطئين في الاطمئنان إلى قدرة جماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة الإسلامية الراشدة، على ضبط إيقاع الشارع الإسلامي، وتوجيه مسار الإسلام السياسي نحو الاشتباك الجدلي مع القوى السياسية والمجتمعية الأخرى بدلا من القطيعة مع المجتمع. وربما يكون الحضور السلفي قد فاجأ الإخوان المسلمين أكثر مما فاجأ غيرهم، وهو ما يستدعي المراجعة لدى إسلاميي الأردن قبل غيرهم. 
رغم الحضور اللافت يظل المشهد السلفي غامضا إلى حد بعيد، فليس هناك حزب واحد أو جماعة واحدة تجمع السلفيين، بل يأخذ نشاطهم مسميات حزبية عديدة وجديدة، ومنها ما لم نسمع عنه قبل الربيع العربي. وهذا ما يجعل الأمر أكثر إقلاقا ليس للقوى الليبرالية فحسب ولكن للمجتمع كله ولإسلامييه على وجه التحديد، فأن يحصل حزب "النور" في مصر على ربع أصوات الناخبين في المرحلة الأولى من الانتخابات، وأن يتوقع المراقبون ارتفاع هذه النسبة في الجولة الثانية، ليس أمرا متوقعا، ولا هو تطور منسجم مع سياقات التحول نحو الحرية في مجتمع عانى أكثر من ثلاثة عقود من قمع ممنهج وخنق كامل للحريات.
في الواقع، لم يتقدم السلفيون على حساب الليبراليين في مصر، وما حققته القوى الليبرالية في الانتخابات يعبر بصدق عن حضورها في الشارع المصري. لكن هذا النجاح السلفي المبهر جاء على حساب الإخوان المسلمين الذين تأثروا أكثر من غيرهم بهذا الاجتياح السلفي المباغت لصناديق الاقتراع.
إنها مرحلة جديدة إذن ينتقل فيها المصريون من حصار الممنوعات إلى حصار المحرمات، ويبدو أن الرغبة في تجريب من لم يجرب، ستقود الشارع المصري إلى إعادة النظر في المواءمة بين انتفاضة ميدان التحرير ونتائج الانتخابات، لكن ذلك لن يكون سهلا في ظل وجود قوى تصل إلى المشاركة في الحكم من خلال الديمقراطية، وتصر في الوقت ذاته على رفض الممارسة الديمقراطية باعتبارها نهجا غربيا لا ينبغي أن يحدد مسار التطور في مجتمع مسلم.
المسألة أكبر كثيرا من فتاوى النقاب والاختلاط وملابس السباحة في مصر وتونس. إنها قضية هوية للدولة والمجتمع، وعلينا أن نختار بين النموذجين التركي أو الأفغاني لا سمح الله.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   فؤاد أبو حجلة