غاب الإخوان المسلمون والسلفيون عن زرع بذور ثورة مصر في ميدان التحرير، وحضروا بقوة في حصاد ثمار التغيير في الانتخابات الأولى بعد الثورة. وقد عكس نجاحهم المبهر في الانتخابات حضورهم القوي في الشارع المصري، وهو حضور لا يستطيع عاقل أن يشكك فيه، فالشارع المصري أوسع كثيرا من ميدان في القاهرة، وهو شارع يئن منذ عقود من سياسات التضييق والتجويع والتجهيل التي مارسها نظام الرئيس المعزول حسني مبارك، وكان وما يزال مجالا حيويا للنشاط الاجتماعي- السياسي الذي تبرع فيه "الجماعة".
لكن هناك روافع أخرى لهذا الإنجاز، فقد اكتسح "الإخوان" والسلفيون صناديق الاقتراع بقوة التحالف مع العسكر وتقاطع المصالح مع بقايا النظام السابق وحزبه "الوطني"، وبحكم رعب الأطراف الأربعة من حدوث تغيير مصري حقيقي يتجسد داخليا في نشوء دولة قوية تحصن استقلال قرارها باكتفائها الذاتي، ويتجسد خارجيا في إعادة رسم خريطة الصراع في المنطقة بعد استعادة مصر لدورها التاريخي الطليعي في قيادة الأمة، وتحقيق حضور محترم للعرب في الساحة الدولية.
ولعل ما قيل عن حدوث تزوير وتجاوزات كبيرة داخل قاعات الاقتراع وفرز الأصوات يكتسب شيئا من المصداقية في ضوء التوافق الذي يكاد يصل حد التطابق بين المجلس العسكري الذي لم يخرج من عباءة النظام السابق وتبعيته للولايات المتحدة، وبين من كانوا في الأمس القريب معارضين يزج ببعضهم في السجون ويختبئ آخرون في المغر ويطاردون في الجبال.
بذكاء لافت وحنكة مثيرة للإعجاب استفاد إسلاميو مصر في مرحلة ما بعد مبارك من الغطاء الأمني الداخلي، ومن الغطاء السياسي الدولي ومن الغطاء المالي العربي، وحققوا نتائج فاقت توقعاتهم وتوقعاتنا، وفاجأتهم قبل أن تفاجئ خصومهم السياسيين، وفازوا بما يقارب السبعين في المائة من مقاعد مجلس الشعب.
لكن هذا الذكاء لم يتجل في التصريحات التي سبقت الانتخابات ورافقتها وتلتها، فقد استعجل قادة "الإخوان" وحزب "النور" السلفي في الانتقال من الخطاب الانفعالي للمعارضة إلى الخطاب "العقلاني" للسلطة، حين أكدوا في اكثر من مناسبة التزامهم باتفاقيات "كامب ديفيد"، بل واحترامهم لها وللسلام مع إسرائيل، وكأنه قدر لا فكاك منه. ففي لقاء مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي جون كيري قبل أسابيع أكد عزب مصطفى عضو الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة (الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين) أن الحزب سيحترم كل الاتفاقات الدولية التي وقعتها مصر أيام النظام السابق. ولم نقرأ أو نسمع حتى الآن تصريحا لقيادي في الحزب أو الجماعة يستثني "كامب ديفيد" من هذا الاحترام الإخواني.
السلفيون لم يتأخروا في الكشف أيضا، بل إنهم زايدوا على الموقف بتطرف يصل حد الوقاحة حين تحدث الناطق باسم حزب "النور" الدكتور يسري حماد الى إذاعة الجيش الاسرائيلي مؤكدا عدم معارضة حزبه إجراء مفاوضات مع إسرائيل، واحترام الحزب للاتفاقات الموقعة مع الدولة العبرية.
حماد لم ينس في المقابلة أن يرحب بالسائحين الإسرائيليين في مصر، وبلغة الدليل السياحي أعاد التأكيد على خطأ الاعتقاد بأن وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر يعني إعلان الحرب على إسرائيل.
خلال فترة الكر والفر في العلاقة مع نظامي السادات ومبارك لم ينس الإسلاميون لحظة واحدة نقد اليسار وتشريحه وتجريح رموزه في مصر، وقد كانوا محكومين برؤية تقوم على نفي الآخر وإنكاره، أما الآن وهم يقتربون من عتبة السلطة فإنهم يعلنون الانقلاب على الذات وقطع الصلة بتراثهم السياسي، تاركين لمن صبوا عليهم جام غضبهم في سنوات الجمر والحشر دورا واحدا فقط هو دور المعارضة، فالشراكة مقبولة مع العسكر ومع رجعيي الحزب الوطني ومع أصدقاء واشنطن، لكنها مرفوضة تماما مع من يرسلون النساء للاعتصام في ميدان التحرير!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   فؤاد أبو حجلة