{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ]الأنفال29[.
]هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي. وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة.. ثم هو زاد المغفرة للخطايا. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار.. وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال.
إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق. ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلاً ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها !.
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل؛ والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر؛ والباطل يظل متلبساً بالحق عند مفارق الطريق! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتُسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثاً والمناقشة جهداً ضائعاً.. ذلك ما لم تكن هي التقوى.. فإذا كانت استنار العقل، ووضح الحق، وتكشف الطريق، واطمأن القلب، واستراح الضمير، واستقرت القدم وثبتت على الطريق!
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة.. إن هناك اصطلاحاً من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه؛ والذي خلقت به السماوات والأرض.. ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة.. الهوى هو الذي ينشر الغبش، ويحجب الرؤية، ويُعمي المسالك، ويخفي الدروب.. والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى.. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السر والعلن.. ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق.
وهو أمر لا يقدر بثمن.. ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب. ثم يضيف إليهما {الفضل العظيم}..
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب «الكريم» ذو الفضل العظيم! [1] [
هداية وتدبر[2]
1. تعددت الأوامر بالتقوى في القرآن الكريم، ولكن جاء الأمر هنا بلفظ الشرط لأنه تعالى خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا، فإذا اتقى العبد ربه- وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه- وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرّمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفّظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر، بمراعاة غير اللّه في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقاناً.
2. إن الآية في سورة الأنفَال ومعظمها يتعلق بحال المسلمين قبل واقعة بدر، وكانوا في ضيق شديد كان الخروج منه بإِنْجائهِم من عدوهم ونصرهم عليه، وما نصِروا على قلتهم إِلا بتَقوى الله التي جمعت كلمتَهم وقَوت عزيمتَهم. والتقْوى تكون سبب الفرقان والمخرج في كل شيء بحسبه؛ لأنها عبارة عنِ اتقاء أَسباب الضرر والْخذلان في النفس وفي الخارج.
3. كلمة "الفرقان" فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق، ومعناها في أصل اللغة: الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح والْحكم الحق فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفْريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما الْعلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمُركَّبات، والنسب بين أجزاءِ الْمُرَكَّبات، من الْحسيات والمعنويات، ويبين كل شيء من ذلك، ويعطيه حقه الذي يكون به ممتازًا من غيره.
4. إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه في نظام خلقه، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل، وتفصلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتزيلون بين الحجة والشبهة. وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل، وعن بعضهم بالنصر يفرق بين المحق والمبطل، بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد في الدنيا، ومن العذاب في الآخرة. وهذا من الفرقان العملي الذي هو ثمرة العلمي.
5. ذكرت الآية ثلاثة أنواع من الجزاء على التقوى:
النوع الأول: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: وهو يشمل جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار،
ففي الدنيا: يخص تعالى المؤمنين بالهداية والمعرفة، ويخص صدورهم بالانشراح كما قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّه}ِ [الزمر 39/ 22]، ويزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم، والمكر والخداع عن صدورهم، ويخصهم بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون 63/ 8] وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف 61/ 9]. وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك.
وفي الآخرة: يكون الثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من اللّه والملائكة.
النوع الثاني: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} أي أنه تعالى يزيل آثار جميع الذنوب والآثام الكبائر والصغائر ويمحوها ويسترها في الدنيا. ولا شك بأن التوبة أحد مظاهر التقوى.
النوع الثالث: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويزيلها يوم القيامة لأنه صاحب الفضل العظيم، ومن كان كذلك، فإنه إذا وعد بشيء وفّى به.
وفي الجملة: تكون التقوى نوراً في الدنيا والآخرة، وسبباً للسعادة فيهما، وتحقيق الآمال جميعها، والنجاة من كل سوء وشر، لذا قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الأَلْبابِ} [البقرة 2/ 197].
6. إن الله سبحانه يَعِدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلائل تبين لهم الحق من الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم. لماذا؟ لأن الله الذي يعلمنا هو الحق سبحانه العليم بكل شيء. وعلم الله ذاتي، أما علم الإنسان فقد يكون أثرا من ضغط الأحداث عليه فيفكر الإنسان في تقنين شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم الأعلى سابق على ذلك لأنه علم ذاتي.
7. إن أردت بالتقوى "التزام أمر" فتكفير السيئات يعني أن نتقي الله بترك الكبائر فيكفر عنا السيئات وهي الصغائر. والتكفير على نوعين؛ أولاً أن يسترها عليك في الدنيا، أو يذهب عنك عقوبة الآخرة، ولذلك يقول سبحانه في ختام جميل للآية: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
.........................................
المعاني المفردة[3]
تَتَّقُواْ: التقوى: هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات وسميت بذلك لأنها تقي العبد من النار.
فُرْقَاناً: الفرقان من مادة "فرق"، وتأتي دائماً للفصل بين شيئين، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم. وسبحانه وتعالى يقول: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ }[البقرة: 50]. أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير. ومخرجاً في الدين من الضلال. وفتحاً ونصراً ونجاة. ومعنى في القلب يفرق به بين الحق والباطل. وهداية نوراً في قلوبكم تعرفون به وتفرقون بين الحق من الباطل، وبين الرشد والغي. وفصلاً بين الحق والباطل. وحجة تفرق بين الحق والباطل.
وَيُكَفِّرْ: تكفير الذنوب : محوها.
وَيَغْفِرْ: غفرها: سترها عن الناس.
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: واسع الفضل عظيم العطاء، يعطي الثواب الجزيل.
الإعراب[4]
إن تَتَّقُواْ اللّهَ: إن: حرف شرط جازم يجزم فعلين الأول فعل الشرط، والثاني جوابه وجزاؤه، تَتَّقُواْ: فعل مضارع مجزوم لأنه فعل شرط، وعلامة جزمه حذف النون. يَجْعَل: فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط، وعلامة جزمه السكون. وَيُكَفِّرْ: معطوف على يجعل. سَيِّئَاتِكُمْ: مفعول به منصوب. وَيَغْفِرْ: معطوف على ما قبله . لَكُمْ: جار ومجرور ومتعلق بـ ( يغفر).
المناسبة في السياق[5]
قال البقاعى : ولما ذكّرهم ما كانوا عليه قبل الهجرة من الضعف ، وامتنَّ عليهم بما أعزهم به ، وختم هذه بالتحذير من الأموال والأولاد الموقعة في الردى ، وبتعظيم ما عنده الحامل على الرجاء ، تلاها بالأمر بالتقوى الناهية عن الهوى بالإشارة إلى الخوف من سطواته إشارة إلى أنه يجب الجمع بينهما ، وبين تعالى أنه يتسبب عنه الأمن من غيره في الأولى والنجاة من عذابه في الأخرى.
[1] . في ظلال القرآن.
[2] . تفسير المنار. التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج. تفسير الشعراوي.
[3] . تفسير الشعراوي. الإتقان في علوم القرآن. كلمات القرآن. معانى القرآن للفراء. توفيق الرحمن. روح المعاني. التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج.
[4] . مفاتيح العربية على متن الآجرومية.
[5]. نظم الدرر حـ 3 صـ 207 ـ 209.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية