ليست هذه صفحة الملحق الأدبي، ولذلك لا استنهض هنا مخيلتي القصصية. سأحكي لكم ثلاث حكايات حقيقية جداً عن "الأكاديميا"، آملاً أن تستبعدوا "الشخصنة" بسبب استخدامي ضمير المتكلم بقصد الإسناد، وليس الاعتداد. المهم؛ حين عدت، متأخراً، لإكمال دراستي الجامعية، وأثناء دراستي مساقاً في تذوق النص الأدبي باللغة العربية، خطرت لي فكرة مقاربة خلتها معاصرة المنظور لشخصية الشاعر العبقري الشنفرى، من خلال قصيدته الرائعة "لامية العرب"، وذهبت مزهواً بفكرتي إلى أستاذي (المتنور لأنه درس العربية في لندن)، متشجعاً بمعاملته الخاصة واحترامه لي، وأخبرته عن "أطروحتي". وبعد أن استمع إلى فكرتي بضيق ونصف أذن، تذرع بالانشغال ووعد بمحاولة قراءة مقاربتي بعد شهرين، أي بعد انتهاء الفصل الدراسي بشهر. وبالطبع، لم يشاهد أوراقي، وضاعت تلك الأوراق الآن ولم يضع إحساسي بأكثر من الخجل. (ما أزال أعتقد بأن الأطروحة كانت مهمة).
القصة الثانية، هي اختياري، ثانية، دراسة مادة في العربية أيضاً، عنوانها "فن الكتابة والتعبير". وقد اخترتها معتقداً بأن لي إلماماً بهذا الشأن، مما يجعل دراسة المساق رياضة وفرصة لتحصيل علامة ممتازة. وكانت النتيجة أنني حصلت على تقدير "ب" (ليس "أ" ولا "ب+")، وشاركتني التقدير نفسه زميلة صحافية محترفة تعمل في منفذ إعلامي مهم، عادت إلى الدراسة متأخرة هي الأخرى. وخامرتني فكرة أنني كنت "ماخذ في حالي مقلب"، حين توهمت بأن لدي بعض معرفة بـ"فن الكتابة والتعبير". وذهبت "الألفات والباء الزائدات" إلى زملائنا من جيل أبنائنا ممن نسخوا عن الكتاب في الامتحان، في غفلة عن الأستاذ كليل البصر، أن "أفضل أوقات الكتابة هو بعد صلاة الفجر"، حسب رأي كاتب المقرر الذي نتعلم منه "فن الكتابة". (بالمناسبة: كنت أنا وزميلتي مواظبين على الحضور والمشاركة).
أما القصة الثالثة، فمن أميركا. وطرفاها هما الأستاذ الناقد العظيم آيفور ريتشاردز، أستاذ جامعات كيمبردج وبيكينع وهارفارد، وتلميذه الذي أصبح من أبرز منظري "النقد الثقافي"، ويليام إمبسون، صاحب الكتاب الشهير "سبع طبقات من الغموض". وسأترجم لكم ما كتبه الأستاذ عن طالبه في إحدى المناسبات. كتب ريتشاردز: "كان إمبسون يدرس الرياضيات في كيمبردج قبل أن يتحول في السنة الأخيرة إلى دائرة الإنجليزية. ولأنه حول دراسته، فقد جعلني ذلك مشرفاً عليه. وتبين لي سريعاً أنه قرأ من الأدب الإنجليزي أكثر مما قرأت، وأنه قرأه بطريقة أفضل مني وأكثر حداثة. وهكذا، كان هناك خطر وشيك من أن نتبادل الأدوار". وبعد زيارته الثالثة لأستاذه، طرح إمبسون على ريتشاردز فكرة موضوع يعمل عليه. ويستأنف الأستاذ ريتشاردز: "وبينما يعرض طريقته لتفكيك "السوناتا" (القصيدة التي كان يعمل عليها)، وكما يخلع الساحر قبعته، أخرج سرباً من الأرانب النابضة بالحياة، وأنهى بالقول: "إنك تستطيع أن تفعل ذلك بأي شِعر، أليس كذلك؟". كانت تلك هبة جاءت من السماء بالنسبة لمشرف مثلي، فقلت له: "يفضل أن تذهب وتفعل ذلك، ألا تفعل؟". وبعد أسبوعين، عاد ومعه رزمة سميكة من مخطوط تحت إبطه؛ 30.000 كلمة أو نحو ذلك، أصبحت مركز كتابه. ولا أستطيع أن أفكر بأي نقد أدبي يتصف بمثل ذلك التماسك والتميز منذئذ". ويذكر ناقل القصة الموثوق أن ريتشاردز كان يعرف تأثيره على إمبسون، وهو صاحب مفهوم اللغة "الانفعالية" الذي ارتكز عليه تلميذه في استنباط مفهوم "الغموض"، لكنه نادراً ما ذكر صلة كتاب إمبسون بفكرته.
في ذهني قصة رابعة ربما أحكيها لكم فيما بعد عن الشاعرين "عزرا باوند" و"ت. س. إليوت" في سياق مشابه. ربما يفسر ما ذكرت لي ولأصدقائي السائلين سبب خوفي من الكتابة حتى الآن (وربما للكثيرين غيري). ولأساتذتي الرائعين النادرين الذين لا "يسوؤهم"؟ نجاح طلبتهم، أقول: أعذروني، لم أقصد التعميم. وأشكر خاصة أستاذتي الأميركية الزائرة التي درستني "الكتابة الإبداعية" بالإنجليزية، ووصفتني (جادّة) بالأنانية، حرفياً، لأني لا أنشر ما أكتبه. هل وصلتكم فكرتي؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة