استوقفَ زوجتي وهي تقلب قنوات التلفاز صوتٌ لم يكن عذباً تماماً، لكنه يغني موّال عتابا.. واستوقفني الصوتُ أنا أيضاً لأنه قادم من "هناك"، من الضفة الأخرى حيث لا ينبغي أن يغني أحد.. كان المغني شاباً يموّل شعراً عن الأشاوس والشجعان بلهجة فلاحية بسيطة، وكان وسيماً وفقيراً.. وعندما انتهى الموّال الفخور، تكشف الغناء عن فاجعة خلف الكلمات.. كان "جبر دار خليل"، من قرية سنجل المحتلة، كما أورد تقرير تلفزيون فلسطين يوم السبت الماضي، عاجزاً تماماً عن المشي، والعمل، واستخدام الحمّام أيضاً، لأنه لم تعد له أمعاء... كان الرصاص قد ناشه في ظهره وخاصرته فقطّع أمعاءه، وتركه في غيبوبة طويلة (في مستشفى "هداسا" الإسرائيلي!)، كانت كافية لتذهب بحياة أمّه حسرة، قبل أن يعاود النهوض من قاع الموت ويخرج بعد مائة يوم ليتشبث ثانية بأذيال الحياة. وقال إنه يتلقى مساعدة بسيطة تكاد لا تكفيه مؤونة يومه، لكنه ما يزال يضحك ضحكة صافية، ويغني!
للحظة، غابت الشكوى اليومية من ضيق الأحوال وثقل المطالب ومصاريف الأولاد، وأحسسنا بكم نحن مترفون، في بيت دافئ وآمن، بلا رصاص في الخاصرة ولا أنابيب بلاستيكية ميّتة مزروعة في الجوف بدل الأمعاء.. وفاجأني السؤال مثل ضربة في الوجه، وقد لاحظت فوق رأس جبر تماماً، على الرفّ الذي يعلو شاشة التلفاز، آلة العود المهملة التي علاها الغبار، وارتخت أوتارها بعد أن لم تعد تحنو عليها يد: كيف يستطيع جبر الذي اغتالوا أمسَهُ وغدَهُ أن يغنّي، وليست بنا، نحن الذين بأمعاء حقيقية، رغبة في الغناء؟!
حاولت أن أفسّر غناءه باستذكار بيت إبراهيم طوقان عن الحبشي الذبيح: "قالوا حلاوة روحه رقصت به..." لكنه كان تفسيراً خائباً، فالذي شاهدته لم يكن ديك حبش مذبوحا تنسحب من أطرافه الحياة فيتقافز من حمأة السكين وقبضة الموت، وإنما كان إنساناً بدا وأنه يبدأ الحياة من أولها، بلا تكلف ولا تمثيل.. ولم يكن غناؤه المشغوف والقوي شيئاً يشبه النواح ولا رثاء مالك بن الريب نفسَه.. كان يبدو وأنه نسي جبرَ الأول الذي لم يكن يتيماً وكان يمشي، لكنه لم ينس جبر الذي يغنّي.
وجاء الجواب بسيطاً.. عندما لا يعود هناك قاعٌ آخرُ يمكن أن تهبط بك الحياة إليه، فإنه لا يبقى أمامك سوى القعود في القاع، أو الصعود. وهناك، لا بدّ أن تدرك تماماً أنك ما زلتَ حيّاً، فتحتفي بقيمة الحياة، مجرد الحياة، وتكون مجرد قدرتك على الغناء مدعاة لأن تشرع بالغناء.. ويكون صعود الصوت عالياً وبلا ارتجاف تعبيراً عن شيء يصعد... هل يفسّر هذا زغردة أمهات الشهداء بدلاً من النحيب؟ ولماذا يروجون أن زغاريد هؤلاء الأمهات هي تجلّ لثقافة تعشق الموت لمجرد عشق الموت؟ ولا يفكرون بأن البديل هو اللحاق بالراحلين، أو القعود على القاع، أو الانتحار؟
بدا لي التفسير منطقياً، وفكرتُ بالمفارقة التي ينطوي عليها الموقف، وبمفارقات كثيرة مشابهة لها منطقها الخاص: البكاء في قمة الفرح، والضحك الذي يهجم في أشد اللحظات حزناً. وحاولت أن استلهم شيئاً من مشهد جبر الأخير، وقد صوّره المخرج واقفاً، ثم فتح عدسات الكاميرا من خلفه على البيوت البسيطة الواقفة هي الأخرى خلفه، وقد أحاطت بها بعض أوراق العشب التي أنبتها المطر من بين الصخور.. وتردد صوت العتابا، صاعداً مرة أخرى، ساحباً معه إلى أعلى أوراق رؤوس النباتات وحجارة البيوت، وجبر.. وظننت أن كل ذلك يبعث على الغناء، ولو كان حزيناً، فنهضت، ونفضت الغبار عن عودي، ودوزنت أوتاره، وحاولت أن أستعيد مودتها فداعبتها بريشة مترددة وأصابع ناشفة. وحاولت الغناء، فلم يخرج صوتي!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة