أحاول اليوم بعض الحرية في زاويتي... وأفتح نوافذها لينثال فيها الدفء والضوء، فأتجول فيها بالقميص الخفيف، وأستلهم اجتراء الشمس الربيعية على آذار (مارس)-"أقسى الشهور، وأكثرها شبقاً"، كما قال درويش... وأفكر بأن أستعير من آذار مزاجاته: هذا الجبار الرقيق، والمارد الطيب، الذي أهدت إليه السنوات أعلى أيامِها... لِمَ لا، وقد وضعتني الحياة ذات يوم على يدَيه، فأصبَحتْ لي دالَّةٌ علَيه؟... لكنني تعودت أن يذكّرني آذار بسقوط ورقة من شجرة العمر (سوى مرّة واحدة، رقّ فيها فأهداني ورقة خضراء فُستُقيّةٍ أنبَتها فجأة، ثم طيّرتها ريح تشرين وذهبت بلا تلويحة من يد ولا منديل)... ولم يعد لي ما يعزّيني في غياب نهار آخر سوى قرابة ذكرى ميلادي بذكرى ميلاد "درويش" التي عبرت قبل يومين، لعلّي أعوّض حسّ الفقدان بشيء من الزهو: فقد تشاركت معه طبع آذار وأقدار "برج الحوت"، وفنجانَ قهوة صنعها بيديه ذات مساء، وحديثاً عابراً قصيراً وخالياً من الشعر والعاطفة، ووصية لي بأن أكتب، لم آخذها على محمل الجدّ...
لم يكن "محمود الشخصي" صديقي، ولم أكن شريكه في حرفة الشعر؛ لأنني اعتقدت دائماً بأن آلهة الشعر اختارته لتورثه -وحده- ناي الراعي، فانسربت في إثره قُطعان اللغة وغزلانُ الكلام، ولم يترك لي ولغيري سوى صيد قليل... ولا أنا أستطيعُ، مثله، أن أختزل العالَم في فكرة، والفكرة في عبارة. لكنني أصطاد الأفكار الطائرة بفخاخي البسيطة المنثورة بين أعشاب هذا الربيع المبكر، لعلي أمسك بواحدة أو اثنتين من سرب بطول عمر بدأ، منذ صادفتُ صغيراً، كتاباً أصفر بلا غلاف، عنوانه "مختارات من شعر المقاومة"، ولم أعد كما كنتُ...
مّرة واحدة، غاض افتتاني بالعظيم الآخر، نزار قباني، ولَعِبهُ الصَّبويّ مَع النَُهود.. وتملّكتني قوة الصوت وسطوة الإيقاع... و؛ كيف يتسلل شاعر إليك، وينسل في مسامّك ليصيبك بشيء يشبه الحمّى، فيتغير صوتك ومفرداتك، وتصبح وكأنك تهذي، ولا تعود تميّز من كلامك ما هو له وما هو لك؟! ولم أتقصّد حفظ درويش، ولا أعرف كيف تخللت إيقاعاته موسيقاي... ولأن له قدرة اختزال الفلسفات الكبيرة في عبارات، فإنه يكفيك مشقة ابتكار الإجابة عن موقف كبير بأن يُعيرك منه عبارة موجزة جزلة تقول كل شيء... فلماذا تبحث عن عباراتك؟ وكيف تستطيع، إن أردت، أن تطلق صوتك المفرد، متيقناً من أنك لا تسرق من ظباء اللغة واحداً من سرب درويش؟ كيف لك أن تدانيه في الإشراق، وأن تعرف تعويذته التي تجيءُ بالكلام إلى راحتيه ليرتبه كيفَ يشاء؟!
كانت له تعويذته و"ناي الراعي" بين أصابعه، وهو الذي نشأ مفتوناً بالرعاة... وطاف بالمتنبّي، وإليوت وباوند، وريستوس، ونشيد الإنشاد، وكانت تدور حوله دائماً سيمفونية من الأصوات، لكنه استطاع دائماً أن يعزف مقطوعته الفريدة وحده... كان يعرف كيف يغوي اللغة فتسند رأسها إلى صدره، ويحكّ شَعرَها، فتبوح... كان يستطيع أن يلعب مع المفردات والمجازات بمكر طفل مشاكس... وكان يتقن احتجاز المساءات ليموِّج بنبرته أثير المكان، فلا يخرج الخارجون كما دخلوا إلى حضرته، أو لم يكونوا يخرجون... ولم يكن محمود يريد الموت "ما دامت على الأرض قصائد/ وعيون لا تنام"، ولم تخلُ أرضه أبداً من القصائد. وقرب النهاية، استمهل "الموت الصغير"، "فانحنى باحترام وقال: إذا ما أردتك يوماً وجدتك"، ولم يجده... فقد راوغه بناي الراعي وخلود الشعر، وقال: "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي/ لا أريد لهذا النهار الخريفي أن ينتهي"... ولم تنته قصائد درويش ولا نهاراته ولن تنتهي... وأخيراً، أصطدم بجدران زاويتي الصغيرة لتذكرني بأن عليّ أن أقصّر الخطى، فأستحضر حكمة الزعيم الهندي الأحمر"سياتل"، التي سحرت درويش شاعراً، وبهرتني مترجماً: "هل قلت موتى؟... ليس ثمة موت... ثمة فقط تبديل عوالم"!.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة