عندما شطبت منظمة التحرير الفلسطينية "ثوابت" الميثاق الوطني الفلسطيني المتعلقة بالحق في فلسطين التاريخية، صعد شعار "خذ وطالب" لتبرير "التكتيك المرحلي" الرامي إلى إيجاد "موطئ القدم"، الذي عرضته اتفاقيات أوسلو (1993)، لخلق دولة فلسطينية. وعندما عاد العرب للقبول بأقل بكثير جداً مما عرضه "قرار التقسيم"، قال "الواقعيون" معاتبين –وربما شامتين: "ألم نقل لكم من زمان، خُذ وطالب؟"
ليس من الصعب الإشارة فوراً إلى الطرف الكاسب دائماً في الصراع العربي-الإسرائيلي، أو الفلسطيني-الإسرائيلي الطويل.. ولست في معرض البحث عن الأسباب الواضحة تماماً لكل من لا يخاف النظر في المرآة، لكنني سأشير إلى بديهية في معادلة الصراع، هي اعتماد الطرف الصهيوني الذي لا مراء في عبقريته، على استراتيجية: "طالب وخذ".. وقد بدأ ذلك بالمطالبة بما سُمي "الحق اليهودي" في "أرض إسرائيل"، ثم احتل أراضي 1948، ثم طالب بباقي "أرض إسرائيل"، فاحتل أراضي 1967.. ثم طالب بالقدس عاصمة لإسرائيل وصادرها، وطالب بيهودية الدولة ونقائها، وهو ما يعمل عليه الآن بلا توان..
في سياسة "طالب وخذ"، تعني المطالبة، بالمنطق القانوني والعملي وأي منطق: أولاً، أن للمُطالب حقاً يطالب به أصلاً.. ونحن الذين نقول: "ما ضاع حقّ وراءه مُطالب"، أي أن المطالبة بالحق هي الأساس. ثانياً، أن المطالبة تعني بناء قضية متماسكة الأركان، أو مرافعة أو دفوع...إلخ، والتي تبرر أخلاقياً وقانونياً "أخذك" ما تُطالب به.. وإذا كان لكَ دَينٌ على شخص وقح ينكر حقك، فإنه لا يمكن فهم البدء بالأخذ قبل المطالبة، والإلحاح في المطالبة بكامل الحق. إنك تطالبُ، فتأخذ شيئاً، ثم تطالب مرة أخرى، لتأخذ... وهكذا..
لاحظوا كيف يعمل العدوّ الذكي: في الأيام الأخيرة، تصدر العناوينَ خبر قرار القائد العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة إعادة تعريف "المتسلل"، ما يعني التسويغ القانوني لطرد عدد هائل من أصحاب الأرض الفلسطينيين. وقد وجدت نفسي أبتسم معجباً، حتى وأنا أشارك في إبراز هذا الخبر على رأس الصفحة الأولى.. نعم: معجباً بذكاء هذا الكيان الذي يلعب بنا كيف يشاء.. لقد لاحظت فوراً كيف انزلق إلى "تحت" على الصفحة الأولى عنوان تهويد القدس و"باب المغاربة" وانتهاك المسجد الأقصى وتفريغ القدس.. وكانت هذه العناوين، قد أنزلت إلى "تحت" مسألة توسيع المستوطنات، وتحدي هيبة أميركا و"استراتيجية" العرب السلمية.. وكانت هذه العناوين بدورها قد أنزلت إلى "تحت" مكتشفات تحقيق غولدستون، الذي كان قد أنزل إلى "تحت" بشاعة مذبحة غزة الأخيرة والمستمرة، التي كانت قد أنزلت إلى "تحت" العدوان الهمجي على لبنان في تموز (يوليو) 2006... وتستمر متوالية العناوين المنزلقة إلى "تحت" الصفحات والذاكرة، إلى عنوان "احتلال الأراضي العربية في 67" الذي أنزل إلى "أتحت شيء" في الصفحة، على حد تعبير أحد الزملاء، عنوان "احتلال الأراضي الفلسطينية في العام 1948"..
نقول، ونحن أهل الفصاحة: "حتى تُطاع، اطلب المستطاع"، وهو قول ينصح بالتعقل، لكنه يقدم الطلب على الطاعة، ونقول "طالب بالكثير علك تأخذ القليل"، وهو قول عاقل جداً يبدأ أيضاً بالمُطالبة.. وهناك الكثير من "الحكم" ذات الصلة التي تفتق عنها تراثنا الكلامي العريض ولم ينكرها الواقع، من قبيل "إذا قدمت التنازل الأول، فإن مسبحة التنازلات ستكر".. وأعرف أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، لكننا نقول أيضاً إن "الخَيّر، يقول ويُغيّر" إذا اكتشف أنه أخطأ.
تجب العودة إلى الحقائق، والحقائق فقط.. والحقائق لا تبدأ بالقرار الأخير عن "المتسللين"، وإنما بالحقيقة الأولى: طرد "المتسللين" و"المترحلين البدائيين التائهين" من أهل فلسطين عام 1948. ونعرف أنه غير صحيح.. إننا نمتلك كل السند التاريخي والقانوني لنطالب بعودة كامل الأراضي العربية المحتلة. ولذلك، لا أرى ضيراً أكثر مما كان في أن نعيد إلى صدر عناوين الصفحة الأولى من الخطاب والسياسة والصحافة، عنوان: "نطالب بعودة كافة الأراضي العربية التي احتلت في أي تاريخ"، وبأن نضع باقي العناوين تحته، لأنها لا يمكن إلا أن تكون "تحته" بكل بساطة.. ونعرف تماماً كم خذلنا الشعار الخائب "خذ وطالب"، فلنجرب شعار: "طالب بكل شيء.. فقد تأخذ شيئاً، فتطالب"..!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة