ربما يكون أول ما يتذكره "المثالي" هذا الصباح، هو ذلك الهتاف المعُزّي لشاعرنا الكبير أيام حماسه الأول: "سَدّوا عليّ النّور في زنزانة/ فتوهجت في القلبِ شمسُ مَشاعلِ".. أما النداء الذي يمدُّ قُتامة الليل على وجه النهار، ويقتحم صباح "الواقعي" مفتوح العينين على بشاعة الحقيقة، فهو موّال الأسير الفلسطيني الذي كان يحزم أمتعته ليصحب الموت في الصباح، فخطّ على جدران زنزانته مستمهلاً الليل: "يا ليل خلّي الأسير تيكمّل نواحُو/ خايف يصيح الفجر ويرفرف جناحو/ تيمرجح المشنوق في مهبة رياحو/ وعيون في الزنازين بالسر ما باحو.."..
ونحن "الأسرى المدللين"، المنتشرين على أطراف الأرض، وكثيري الشكوى مع ذلك من ضيق العالَم علينا -أو بِنا- نجد أنفسنا اليوم موزّعين بين احتمالَين: احتمال الهتاف العاطفي العالي المحتفي بكثرة أسرانا لأن لنا الكثير من المناضلين من أجل الحرية؛ واحتمال الحِداد والاعتراف بأن السّجن ليس مدعاة للغناء الجذِل، ولا للهُتاف بأي شيء آخر سوى الاحتجاج، ومزيد من الاحتجاج.. ولا يمكن أن يكون الأسرُ هو الخَيار الذي أحبّهُ عاشقو الحريّة والشمس حدّ الذهاب لأجلهما إلى مكان بلا حريّة ولا شمس.. واسألوا عن ذلك أبي فراس الحمداني، الفارس الشاكي قسوة الأسر للحمام الطليق.. وقد تعلمت ذلك حين صادفت رجلاً كان خرجَ تواً من سجون الاحتلال بعد 20 عاماً، و"أبعدوه".. وحين جاملته بسيل من الكلام الحماسي، واجهني بسؤال ثقيل أسقطه بهدوء في يديّ: "مَن يعيد لي سنوات شبابي العشرين؟ وربما الثلاثين التالية في المنفى؟".. وما أزال أحمل ذلك السؤال الثقيل منذ ثلاثين عاماً.
هل قلتُ أسرى، ومدللون؟ ربّما فكرت بأن هناك أسرى "غيرَ مدللين"، غُلِّقَت عليهم الأبواب وحُشروا في عتمة الداخل، وبأن هناك أسرى "مُدلَّلون" غُلِّقت دونهم الأبواب وتُركوا في عراء الخارج، وألقِيَ بالمفاتيح جميعاً في البحر.. وقد تعلّمتُ أيضاً كيف يُمكن أن تكون مُعتقلاً في الخارج حينَ عدتُ إلى منزلي بعد مشوار قصير صباحيّ، ووضعت مفتاحي في قفل الباب فانكسر، ولم أستطع الدخول.. وجلستُ محطوماً على الرصيف أمام منزلي بملابس النوم، معتقلاً في برد الارتباك، يفصلني عن دفئي وملابسي ذلك الباب العنيد الذي بلا مفتاح.. وقد ضاق صدري وبحثت عن حمام طليق لأشكو.. ربّما فكرتُ في ذلك الصباح بالأسرى "المُدللين" بميزة التجوال في المكان الفسيح كله، سوى تلك الرقعة الأليفة، الدافئة التي يحتاجونها بالذات -داخل المنزل- حيث يستطيعون استبدال ملابس النوم بما يشاؤون من ملابس الخروج، ويصنعون فنجان قهوتهم بأيديهم في ركوة يعرفون مقاساتها..
عشرة آلاف أسير فلسطيني؟.. و40 % من الرجال الفلسطينيين عرفوا، فيزيائياً، خبرة الاعتقال في سجون الاحتلال؟.. إحصائيات غير دقيقة، وتختزل الحقيقة! ثمة ما يقارب أحد عشر مليون فلسطيني كاملين، يعيشون جميعاً في الأسر، ويختبرون الاعتقال الفيزيائي، لكنهم يفترقون فقط في مستوى "الدلال"، بين أسير "بلا دلال"، محشور في ضيق الداخل المُعتم، وأسير مطرود له "كل دلال" التيه في العراء المعادي.. وأضيف إلى هؤلاء –ومَن يمنعُني؟- كل الملايين الأخرى من الذين حملوا صفة الفلسطينية منذ السطر الأول الذي كتب في تراجيديا النكبة، وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها شيئاً يضاف إلى تراجيدا النكبة..
حاولت أن أغني، وأنا قادم –حراً- إلى مكتبي: "ما همني ألمي.. السجن للرجلِ".. فوجدت أن السجن ليس هو المكان الذي يليق بالرجال.. وتذكرت أغنية سميح شقير: "لو يرموك في العتمة/ لوحدك بين جدرانك.. عشب جواك رح يطلع/ ويزهر غصن وجدانك"، لكن العشب لا ينبت في السجون، ولا غصن الوجدان يزهر بلا شمس.. ثم صعد السؤال الذي سقط على يديّ قبل ثلاثين عاماً، ونسيت ثقله لكثرة الاعتياد: أيُّ شيء يمكن أن يعيد للأسير السنين التي تذهب من عمره بلا حرية، داخل السياج أو خارجه؟. وقررت أن أحتج، بلا غناء ولا هتاف، على كل السنين التي لن يعيدَها أحد، والتي سُرقت من أعمار أحد عشر مليون فلسطيني، وأسلافهم وأخلافهم، ممن خبروا الاعتقال الأبدي بتهمة "فلسطيني"، وأن أطالب بالحرية للشعب الأسير كله، في أيّ "هنا"، وخلف السياج.. "هناك"..!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة