قد يبدو العنوان غريباً، لكنه بسيط، ويفسّر ما سأذهب إليه..
اللونغا هي مقطوعة موسيقية ذات إيقاع سريع نشط، تعتمد على الجمل الموسيقية ذات الانتقالات الرشيقة التي تبرز مهارات العازف التكنيكية وقدراته الأدائية. ويحتاج تذوق اللونغا إلى ثقافة موسيقية جيدة. أما "النهاوند " فهو مقام موسيقي شرقي أصيل، وهو مقام عذب رقيق الطابع يناسب الألحان الحزينة العاطفية المعبقة بالحنين (أغنية فيروز "البنت الشلبية " على سبيل المثال). وكان ذكر لونغا النهاوند قد جاء في حوار جانبي مع الفنان العربي الكبير مارسيل خليفة على هامش أحد المهرجانات، حين قال لي الفنان الكبير إنه يقدّم أغنيات مشغولة على إيقاع "المصمودي "، وهو إيقاع عربي خالص راقص (مثل إيقاع أغنيته "يا بحرية ")، حتى يقنع الجمهور بعدها بتذوق جماليات "لونغا نهاوند "..!
ذكرتني بقصة لونغا النهاوند ظاهرة انفضاض الناس عن النتاجات الفنية الرفيعة، وعن التعاطي مع الفكر المجرد والنظري، ربما عن غير قدرة، وليس عن غير رغبة. والظاهرة قمينة بالانتباه لأنها تؤشر على قصور إدراكي سببه قلّة الدّربة وسوء الإعداد.. ويعني هذا القصور اختزال ملكة الإدراك وقَصرَها على أنواع محدودة من المعارف البسيطة، من النوع الوظيفاتي التجريبي غير المركب.. ويتبع ذلك تضييق المخيّلة وتعطيل ملكات العقل العليا، ما يعني في المحصلة كارثة حقيقية على المستوى المعرفي الجمعي..
في هذا الإطار، أتساءل عن تصنيف حصص التربية الفنية والموسيقية في المدارس تحت مسمى "النشاطات اللامنهجية "، وتخصيص وقت ضيق لهذه المواد مصحوباً بالضيق بها واعتبارها حِملاً فائضاً.. وكنت كتبتُ في السابق عن تغييب مساق الفلسفة عن المناهج المدرسية في سلوك هو الغرابة بعينها.. ويترافق تغييب هذه المناطق المهمة من الخبرة الإنسانية مع تكريس أساليب تربوية ومناهج توظف التلقين وحشو الدماغ بالمعلومات بحيث يكون محيّداً وغير قادر على استنطاق ما يُحشر فيه.. ويتساءل المرء عن معنى "لامنهجي " لوصف مساقات الفن والموسيقى والرياضة الجسمانية: هل عنى العقل الذي تفتق عن هذا التصنيف أن تكون هذه المواد "خارج المنهاج "، بمعنى أنها إضافية لا يمكن تقييم الأداء فيها ولا تدخل في مجالات التحصيل المعرفي؟ أم أنه اعتقد بأن "المنهجية " لا تنطبق على تعليمها وتقييمها؟
ثمة مغالطة بائنة في الحالين.. فإذا كان الفن فائضاً في حياتنا، فأي معنى هناك لتمييز الجميل والقبيح، وما هي المعايير التي نرتكز عليها في إطلاق هذه الأحكام الاستطيقية يومياً عشرات المرات وعلى عدد لا حصر له من الموضوعات؟ وما هي الأسس التي نقيم عليها أحكامنا على عمل أدبي أو فني بأنه جيد أو رديء؟ وإذا كانت الموسيقى فائضة، فلماذا لها كل هذا الحضور في حياتنا اليومية؟ ولمَ لا نصبح شعباً من غير موسيقى ولا أغنيات، ولا أدب ولا رسم، ونريح كواهلنا من هذا العناء كله؟
أما القول بلامنهجية تثقيف التلاميذ بتاريخ الفن ومدارسه، وبالموسيقى وتنويعاتها، وبالفلسفة وأصولها ومدارسها، فهو قول مردود على صاحبه.. إنها في البداية والنهاية معلومات، مثل معلومات التاريخ والعلوم والرياضيات، ويمكن قياس التحصيل فيها، ما يعني حُكماً أنها تضيف حاصلاً يمكن قياس كمّه ونوعه ضمن معرفة الفرد الكُليّة.. ويبقى الأمر متعلقاً بالإيمان بجديّة ولزوم هذا النوع من المعرفة.. أما وأن الفنون والموسيقى، وكل مقولات الفلسفة وموضوعاتها تظل حاضرة في حياتنا بشكل كثيف، فإنه ليس هناك ما يسوغ اعتبار المعرفة عنها "نشاطاً لا منهجياً " وعارضاً.إنني لا أتحدث عن "ترف معرفي " (إذا كان يمكن اعتبار أي نوع من المعرفة ترفاً من حيث الأساس). وإنما أتحدث عن التعاطي مع كافة مستويات المعرفة دون الميل إلى الاستسهال وتفضيل ما هو مسطح. وأعود فأحيل أسباب أزمة تعطيل طاقات العقل لدينا، إذا كنت لا أبالغ في اعتبار ذلك أزمة، إلى السياسات التعليمية وسكونية العقل الذي يدير هذه السياسات.. وأدعو مع الداعين إلى إعادة تخطيط استراتيجيات التعليم كلها بحيث تضع في اعتبارها ضرورة التفعيل الأقصى لكافة مناطق العقل.. وأتصور بعد ذلك أن يصبح مفهوم "لونغا نهاوند " –لا على وجه التخصيص- مفهوماً يومياً وعادياً جداً كما ينبغي له..!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة