أثناء مباراة تشيلي وسويسرا في المونديال، سألني صاحبٌ عمّن أشجّع. فأجبت من دون تفكير تقريباً: أشجع أي فريق ذي بشرة غامقة أو سمراء. ولم يأت جوابي العفوي من فراغ، وإنما من إحساس موروث بأن "الملونين" في العالم، ومنهم نحن، ظلوا يعانون تاريخيا من تعالي البيض، واستعمار البيض وتحكّمهم، وما يزالون.
ربما تكون هذه الفكرة بالذات هي التي جعلت جماعتنا الطيبين حد الخديعة يفتعلون قرابة دم، أو لون، بيننا وبين الرئيس الأميركي باراك أوباما. وعزز الفكرة اسم الرئيس الأوسط، حسين، وأصوله في القارة المنتهكة. ولأن اليائس يتعلق بقشّ الأوهام، خلَّقنا أسباباً لنتعلق بذيل "قريبنا" الأسمر، علّه يخرجنا من اللجة المتلاطمة التي نصارع فيها بلا قارب نجاة.. وتقصَّدنا إغماض العيون عن الواقع، على طريقة رأس النعامة والرمل، أو مثل الذي يدير وجهه عن وريد ساعده قبل أن تنغرس فيها الأبرة، فيغفل عن ألم ما قبل الألم.
كان المشهد الذي قال كل حكاية أوباما من أولها هو وقوفه الخاشع بالقلنسوة اليهودية أمام حائط المبكى اليهودي، أيام رحلة استجدائه مباركة العراب الإسرائيلي لترشحه، والتي يقوم بها كل مرشح رئاسي أميركي يريد الفوز. ولم يعمد أوباما يومها إلى الصلاة في المسجد الأقصى، ولا هو ارتدى عمامة شيخ، سوى واحدة ألبسها له رسامٌ ليثبت "قرابته" بالمسلمين و"الإرهاب"، فيخسر الانتخابات. ولا يمكن اعتبار صورة أوباما أمام حائط اليهود اعتناقا للتعددية، لأنك لست مضطرا لأن ترتدي قلنسوة بنجمة داود حتى تبرهن حيادك وتعدديتك. وإنما كان الهدف الذي عرفناه جميعا وتعامينا عنه هو التعبير لليهود النافذين عن الالتزام بدوام القتال في معسكرهم والانصياع لرغباتهم.
وبالإضافة إلى ما ذكره الناشط والمفكر العالمي نعوم تشومسكي عن حقيقة امتلاء موقع أوباما الألكتروني بالمواد المعجبة باليهود أيام ترشحه، وخلوها من شيء عن كل المسلمين والعرب، جاء صمتُ الرئيس القادم آنذاك عن مذبحة غزة 2008-09، وتذرعه بأنه غير مخوّل بالتصريح.. وقبلها كان تبريره في بلدة سديروت لانتقام إسرائيل من غزة بدعوى الدفاع عن النفس، كما كان ليدافع عن بناته، كما قال. وقبلها كانت رعايته مشروعا في الكونغرس يطالب بعدم فعل شيء يعيق إسرائيل عن إنجاز ذبح لبنان في صيف العام 2006. وبعدها جاء استئنافه سياسة سلفه في تجويع الفلسطينيين في غزة بدعوى إسقاط حماس، ولا تنتهي قائمة جوره على العرب. وباختصار، لم نشهد من هذا "القريب الأسمر" سوى الكلام الذي يخدع الساذجين، وكل ما يغثي البال ويعمّق الخيبات.
ولا ينبغي أن نلوم الرجل الذي له معادلاته وحساباته الخاصة، وإنما يجب أن نبكي ونضحك على حمقنا المتأصل حين علقنا آمالنا عليه، ونسينا قولتنا التراثية: "ما حك جلدك غير ظفرك/ فتولَّ أنت جميع أمرك". وكان يجب أن نسأل أنفسنا عمّا قد يغري أوباما أو غيره، أو يجبره على الانحياز إلينا، حتى بدفع البراغماتية، من دون أن نعرّضه لأي ضغط، في مقابل الكثير جداً من الضغط الذي يضعه عليه خصومنا. وكانت تجب ملاحظة التماهي بين إهمال أوباما لنا وبين سكوته عن إغراق أقاربنا "الحقيقيين" لآمالنا، وشدة انبساطهم برضى الرجل عن سلوكهم الدبلوماسي المروَّض في الخارج، وإبداعهم العبقري في الإبقاء على الأفواه مطبقة والأيدي مغلولة في الداخل.
كان لا بدّ لانتظارنا سَمَك الآخرين من دون أن نتعلم الصيد أن يتركنا جائعين. ولم يكن للرؤساء الأميركيين، والأمم المتحدة، والغرب وكل الآخرين أن يقيموا لنا وزنا ونحن لم نعرض سببا واحدا يشتري لنا الاحترام والهيبة. ولنلاحظ الحقيقة البسيطة والحقيقية جداً: لقد كان الأمر الوحيد الذي أقنع بترايوس وغيتس بمحاولة إقناع أوباما بتغيير سياسته تجاه إسرائيل والعالم المسلم هو الخوف، والخوف وحده، على الجنود الأميركيين والمصالح الأميركية من القليلين بيننا ممن يقاومون ويضغطون ويستخدمون منطق القوة السّيد. وإذا كانت ما تزال لدى أحدنا بقية أوهام إزاء نصرة أوباما أو غيره قضايانا لأجل سواد عيوننا، فلا أمل بشفائنا من الحُمق. ولن نفلح إذا شجّعنا الناس بتوهم قرابة اللون الخادعة، وأهملنا معيار اللعب النظيف.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة