لا أظنّ أحداً يريدُ أن يتجادل في فُسحة العيد مع عنوان كبير. وأفكر: إذا تفضلتم يا أصدقائي فاستقبلتموني لأشرب معكم القهوة المُرّة وحلوى العيد، فينبغي أن يكون مروري بكم خفيفاً، لا يكدر الصفو. والحقيقة أنها مهمة صعبة، لأنّ الأحاديث إياها عن الهمُوم الآنية سرعان ما تحشر أنفها في كل شيء، مثل سوسة الشعير. وفكرت بأن أجرب الحديث عن أول فكرة شخصية تمر بالبال، وأرى إلى أين تذهب بي.
وفي ذهني شيء يبدو أنه الأكثر إلحاحاً: مقطع للشاعر اللبناني شوقي بزيع. يقول: " كأنّا كبُرنا ولم ننتبِهْ! / أو كأنّا رياحٌ تسرِّبنا كفُّ أعمارِنا من شقوق الحنينْ.." ولا أريد أن أذكر عنوان القصيدة، ولي أسباب، لكنني أريد فقط أن أستعير منها ذلك الحنين العجيب إلى الطفولة. ولم تكن طفولتنا جميعاً تجربة مستنسخة كلها ألق، لكن المعظم ربما يتحدثون عن طفولتهم على أنها أجمل، بحلوها ومرها. وربما يكون الاحتيال بالهرب إلى عيد الطفولة ذاك مناسباً للتخفف من أثقال العيد علينا وقد "كبرنا، ولم ننتبه".
كان أميز ما في أعيادنا أيام زمان، هو حصول المحظوظين منا على ملابس جديدة، ملابس العيد. ولحسن حظي، كان أخي الكبير يعمل في مصنع للملابس، ولذلك كنت أحصل دائماً على ملابس جديدة وبطريقة حلوة. لم يكن أخي يجلب لي ملابسي قبل العيد. كانت طبيعة عمله تجعله يتأخر ليلة العيد، فلا أصمد أمام سلطان النوم حتى يعود، وأستيقظ في صباح العيد لأجد الملابس الجديدة منتظرة على وسادتي. وهكذا، يبدأ العيد بالملابس التي تعطي شعوراً بالجِدّة والخيلاء، وبتكبيرات المصلين القادمة من المآذن. ولم تتغيّر نغمة تلك التكبيرات مع مرور السنين، لكنني لا أعرف لماذا كانت أيامها أجمل. وكان الوالد يعود من الصلاة، فنقبل يده وينقدنا "العيدية"، فيبدأ الاحتفال.
ولا يفكر الصغير بهمّ "عيديات" يدفعها لأحد، وإنما في كيفية إنفاق ما جمعه من الأقارب. وفي أيامنا، كانت في السوق للصبيان لعبتان مشهورتان: "فرد"، أو مسدس صغير الحجم جداً، نذخره بشريط ملفوف أحمر عليه نقاط سود من البارود، ونضغط الزناد فتضرب قطعة حديدية على النقطة السوداء، فتفرقع وتطلق شرارة صغيرة. أما اللعبة الثانية، فطائرة صغيرة، يبدو أنها حربية، أكبر قليلاً من راحة اليد وتشبه البيضة المستطيلة وبلا أجنحة. ولم تكن تتحرك بجهاز "ريموت"، ولذلك كنا ندفعها على الأرض لتقطع 30 سنتمتراً بدفع "زنبرك" وتتوقف. وقد تطورت الألعاب في السنوات التالية، فاخترعوا لنا لعبة "الثلاثة عصافير": ثلاثة عصافير خشبية معلقة على سلك، تطلق عليها من مسدس يدفع عوداً بلاستيكياً في رأسه فلينة منبسطة، فإذا أصبت أحدها سقط عن السلك. وكانت تلك اللعبة وسيلة البعض للعب والرزق معاً، حيث يؤجرها الولد الذي يملكها، أي أنك تدفع له قرشاً لتجرب حظك، فتخسر قرشك إذا أخطأت العصافير، وتستعيده إذا أسقطت واحداً منها.
أما "مدينة الملاهي" خاصتنا، فكانت "المراجيح" المؤقتة التي ينصبونها في الساحات: قطعتان من الخشب السميك تنغرسان في الأرض على شكل إشارة ضرب (×) طويلة الساقين في الجهتين، ترتكز عليها من فوق خشبة أفقية تتدلى منها أربعة حبال سميكة تستطيع حمل لوح خشبي شبه مربع، نجلس أو نقف عليه و"نتمرجح" قليلاً مقابل أجر. أما أول مدينة ملاه حقيقية، فأنشئت فيما بعد في "رأس العين" على ما أذكر، وفيها كانت ألعاب نيشان و"بلارينا" حقيقية. وكان الذهاب إليها كأنه رحلة إلى بلد آخر.
عندما كبرنا قليلاً، صار العيد في عمان هو الذهاب إلى السينما. وكان لا بد من الذهاب مع أولاد الجيران الأكبر سنّا، حتى يحملوك على أكتفاهم فلا تختنق بين حشود الداخلين مثل يوم الحشر. وبعد ذلك، كان لا بد أيضاً من إكمال الطقس بشراء شطيرة فلافل من مطعم "فؤاد" حتى يكتمل العيد. وبطبيعة الحال، كانت أغلب العائلات تتدبر صنع طعام مميز، فيه لحم أو دجاج، ترحيباً بالمناسبة.
لو أستطيع لأقمت أكثر عندكم وعند تلك الأيام. لكن وقت الزيارة مر سريعاً، ولم أنتبه، وينبغي أن نفترق لنكمل تجوالنا، فكل عام وأنتم بخير.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة