صادف أمس الاثنين 29 تشرين الثاني (نوفمبر) اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد دعت في العام 1977 إلى تخصيص هذا اليوم من كل عام للتذكير بحقوق الفلسطينيين ووضعها تحت الضوء. ومع أن الأمم المتحدة ومؤسساتها لا تأتينا عادة بخير، فإن تذكيرها بالمسألة الفلسطينية ينطوي على شيء من الإيجابية. والواقع أن الدعم الأقوى الذي يتلقاه الفلسطينيون يأتي من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية والإنسانية. ويصل الأمر بالشرفاء من الناشطين الدوليين إلى حد مخاطرتهم بأرواحهم، والقدوم إلى ساحة الاشتباك للمشاركة في النصرة والمواجهة مباشرة، كما فعلت راشيل كوري وشهداء أسطول حرية غزة وغيرهم.
غير أن أداء الشعب الفلسطيني في التضامن مع نفسه يبدو بائساً جداً هذه الأيام. ولا أقصد أبداً إنكار تضحيات الشهداء وسجناء الحرية والمخلصين الكثيرين من الفلسطينيين، وكله واجب لا يستوجب الشكر، وإنما أتعقب بعض مواطن القصور الحالية في الأداء النضالي والتضامني لأصحاب القضية المباشرين، لأن ذلك أجدى. ولا أميل إلى لعبة اللوم والقول بأن كل العيب في القيادة، لأن الشعب الفلسطيني أفرز قياداته بشكل ما. ولم تجئ حتى "الرموز" التي هبطت عليه "بالبراشوت" من خارج قيادات أطره التنظيمية نفسها، ولم تستند إلى ثقل عشائري ولا إلى وراثة تاريخية، وإنما تورطت في إغواء السلطة بعد أن رفعتها قواعدها لتلبي شروط السلطة.
إذا كان "الانقسام" هو ضد "التضامن"، فإن الفلسطينيين غير متضامنين مع أنفسهم بكل وضوح. ولست الذي يتجنى على واقع الفلسطينيين بوصفه بالانقسام، فتلك حقيقة لا يمكن إنكارها. وإذا كنا نرى تجلي الانقسام في القيادات، فإن قواعد هذه القيادات مرة أخرى هي التي تفوضها بمواصلة سياساتها وتقف خلفها. وباختصار، لا تنبغي تبرئة الفلسطينيين من تكريس القسمة باختلاف المواقع. وإذا تقصينا السبب الأصلي والأبعد من الأيديولوجيا للتناحر الفلسطيني، فهو التخلي عن الثوابت المبدئية التي توحّد الجميع، والتي ينبغي أن تكون مقدسة ولا تمسّ. ولأنها لم تعد ثوابت وحقاً غير قابلة للتصرف، أصبح الخلاف يدور حول حجم التنازل عنها، أكثر أو أقل. ولا أحب فكرة المقارنة مع العدو، لكن الصهاينة يختلفون على كل شيء إلا مسألة واحدة لا ينبغي أن يختلف عليها عاقلون: الوجود، والإيمان العميق بأحقية هذا الوجود في المكان والزمان.
في الحالة الفلسطينية، يبدو الفلسطينيون وأنهم لا يدركون بعد أن وجودهم نفسه مهدد -كشعب- ربما اغتراراً بالعدد، أو انخداعاً بسراب "السلطة" الفلسطينية، أو احتفاءً فوق العادة بمجرد البقاء الفردي والعاطفي. وربما يكون أهم غائب عن تضامن الفلسطينيين مع أنفسهم هو الانتباه لمدى وخطورة الانمحاء الوجودي الذي يطاردهم –كشعب- على الأعقاب. ولو انتبهوا إليه لانسحبت الخلافات والاهتمامات الصغيرة لصالح البقاء الفردي والجمعي المهدد.
لا يمكن إنكار الوضع الحرج الذي يعيشه فلسطينيو الشتات، وصعوبة تنظيم أنفسهم في أطر. وربما يعتبر مجرد جمعهم الأموال لدعم أهلهم في الداخل كافياً ليواجهوا تهمة "تمويل الإرهاب"، في العالم العربي والغربي معاً، أو اتهامهم بالتآمر وزعزعة الاستقرار أو التنظيم غير المشروع إذا حاولوا تجميع أنفسهم في جماعات ضغط، أو حتى ممارسة نشاط لحفظ التراث. لكنه يترتب عليهم، إضافة إلى ما أنجزوه من الاحتفاظ بالهوية العاطفية، التفكير بطرق لضم جهودهم والتضامن فيما بينهم ومع أهلهم في الداخل. وربما يكون الفلسطينيون المهجرون والمغتربون في الغرب المؤثر، أكثر مسؤولية من مواطنيهم الآخرين عن تكرار الثوابت والحقوق ونشر الوعي بالقصة الحقيقية والأصلية للنكبة الفلسطينية. وربما تكون فكرة إنشاء متاحف للهولوكوست الفلسطيني المستمر شيئاً يمكن البدء منه لغرس بذرة فكرة "المعاداة للفلسطينية".
يبقى من أهم عناصر تضامن الفلسطينيين مع أنفسهم عدم المراهنة على القوى الإمبريالية المجربة ميتة الضمير، والعمل أكثر على تأمين دعم امتدادهم العربي الشعبي، وكسب مساندة ذوي الضمائر الحية في كل أنحاء العالم. ويرتب ذلك مسؤولية شخصية على كل فلسطيني في موقعه بأن "يروي قصته" كما قال الراحل إدوارد سعيد، كفصل من الرواية الجمعية. وحبذا لو تروى القصة بنسختها الحقيقية الواحدة، وعن نفس الحقوق المقدسة البدهية غير القابلة للتصرف، حتى يصدقها الآخرون.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة