حالة الترقب وتناوب الأمل والقلق، لا تشجع على الكتابة بثقة عن "الربيع العربي" الذي نأمل أنه حل أخيراً: فالحالة مخاض، والمشهد متغير بحيث يصعب تعقب مفاصله والتنبؤ بما تسفر عنه اللحظة التالية. وثمة مواطنون عرب يتهيبون من الفوضى التي قد تصاحب الأحداث، أو من مواجهة لحظة الصدام الذي لا عودة عنه مع أنظمتهم. وربما يفسر ذلك تأجيل الناس لهذه اللحظة المعروضة بقوة حالياً، والتي تنقض أساس فكرة ما ظهر، حتى للأكثر ثورية وتفاؤلاً، على أنه عجز بنيوي في إرادة الشعوب العربية، ونجاح للقمع في تدجين روح الشعوب.
الأصل في العلاقات بين الناس والدولة أن يكون التماهي، لا أقل. ولا يستدعي ذلك بالضرورة الغياب الكامل للأخذ والرد الطبيعي بين الشعب والسلطة، لكن ذلك لا ينبغي أن يصل إلى الانفصال والتعارض المطلق في المصالح. وعلى الرغم من "الاستقرار" الشكلي الذي يغلف العلاقة المختلة من النوع الثاني، والقائمة في الدول العربية، فإن لحظة الخيار الوجودي "أنا أو أنت" تبدو حتمية بعد إفشال الأنظمة خيار التعايش "أنا وأنت". ويتضح الآن عملياً بما لا يدع مجالاً للشك الذي قد يخالط النظرية، أن مختلف بلداننا تنطوي على احتمال الانفجار المؤجل للمواجهة بين الشعوب والأنظمة التي وجدت نفسها عالقة معها في الحدود القطرية الجبرية.
في معرض تحليله للحالة المصرية، يلخص ستيفن كوك، الزميل الرفيع في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، عناصر سياسات حسني مبارك، التي أفضت أخيراً إلى لحظة التعارض الوجودي بينه وبين شعبه: "الاغتراب السياسي؛ التفكك الاقتصادي؛ الفساد؛ والانخفاض الحاد في نفوذ مصر الإقليمي". وبوضع أي دولة عربية مكان "مصر" في العبارة الأخيرة، واستبدال "النفوذ" الإقليمي بـ"الدور" الإقليمي أحياناً، تكون هذه العبارة الموجزة هي الوصفة الكاملة لاستعداء الأنظمة شعوبها، وسقوطها الأخلاقي قبل سقوطها الفيزيائي الحتمي.
الاغتراب السياسي، يعني اعتناق سياسات لا تتوافق مع وجدان الشعب، والتي يدرك الناس أنها تخدم مصالح أطراف خارجية على حسابهم بادعاء النظام أن فيها "مصلحة البلد". وهذا النوع من الوصاية الأبوية يزعم حقه في مصادرة المعرفة لنفسه وجهل الناس بمصلحتهم، ويغربهم عن المشاركة في السياسة ويلغيهم لحساب إدامة النظام نفسه بالاعتماد على خدماته للخارج. ويقول كوك عن مبارك في هذا الصدد: "وهكذا، وجد مبارك نفسه في مواجهة موقفين متناقضين: كان بإمكانه إما أن يكون رجل واشنطن، أو رجل الشعب -وليس الاثنين معاً. وقد اختار الأول، وحاول ملء فجوة الشرعية الناجمة بالتلاعب واستخدام القوة". وكانت النتيجة-الأمثولة لباقي الأنظمة، هي تخلي واشنطن السريع عن "رجلها" بمجرد تخلي الناس عن حاكم ليس رجلهم.
 أما التفكك الاقتصادي فمرتبط بالفساد، وأصلهما إساءة إدارة الموارد بحيث تذهب إلى جيوب النخبة المتحالفة مع السلطة. والنتيجة أن الناس لا يستفيدون حتى من "المساعدات" التي تتلقاها الأنظمة من داعميها الخارجيين، ربما لاعتقاد تلك الأنظمة بأحقيتها في التصرف بهذه "الأجرة" لقاء دورها هي، وبكيفية توزيع شيء منها على نخبتها في شكل مشاريع تملكها نفس المجموعة التي تحك ظهور بعضها بعضا. وفي هذه العلاقة غير السوية، يتم إجهاض أي إمكانية لقيام مشاريع وطنية إنتاجية حقيقية تفيد الناس، وطرد الاستثمارات الأجنبية بسبب ارتفاع رسوم سمسرة النخب. وهكذا يسوغ تأجير القرار الوطني للخارج بدعوى شراء البقاء للناس، بإهمال العامل المهم: استعداد الناس لتحمل أي شيء مقابل استقلالهم وكرامتهم الوطنية.
والدور الإقليمي، لا يتحتم أن يتحدد فقط بالاستعداد لخدمة مشروعات الإمبريالية وأتباعها المباشرين في المنطقة، وإنما يمكن خلق الدور والثقل من خلال الديمقراطية والتنمية والتلاحم الداخلي وتقوية شخصية الدولة واستقلال قرارها بحيث تكون مؤثرة بذاتها. ولا يمكن القول إن مصر ما قبل التبعية الفاقعة لأميركا وربيبتها في المنطقة لم يكن لها دور، بل إن ذهاب نظامها بها إلى التخلي عن شخصيتها الإقليمية والعربية بالذات هو ما عزلها وأفقدها دورها.
على الأنظمة العربية أن تتخلص من وصفة الانتحار المذكورة، وتقاوم ضغط "الخارج" بالديمقراطية، وتختار الرهان الوحيد الكاسب: محبة شعوبنا العظيمة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة