في البلدان العربية التي وصلت فيها التناقضات بين الأنظمة والشعوب إلى القطيعة الكاملة، أخذت أولى خطوات الإصلاح شكل سقوط الأنظمة. وقد تطور شعار "رحيل النظام" دائماً من مطلب "الإصلاح" المعتدل الذي عنون بداية الاحتجاجات. وكما تبيّن من التجربة، فإن الجدل حول أولوية الإصلاح "السياسي" أو "الاقتصادي" قد انحسم لصالح الأول في تلك الدول، نتيجة الخطأ القاتل: إطلاق النار على المواطنين واستباحة دمائهم. وكانت تلك قراءة خاطئة ومميتة، راهنت فيها الأنظمة على جدوى خيار الإفراط في القمع لكتم الأصوات. ولو قرأ هؤلاء التاريخ لوجدوا أن كل قسوة الإمبراطوريات الاستعمارية واستهانتها بأرواح الشعوب المستعبدة، لم تنتج سوى انهيار المشروع الكولنيالي ورحيله، ولتذكّروا أنهم يحكمون أوطاناً اشترتها لهم الشعوب العربية ذاتها بدمائها. كما أن المشكك في صدق العبارة الحكيمة: "البقاء دائماً للشعوب"، هو أحمقُ من نعامة!
سفك دم الناس، كان أيضاً هو النقطة التي أجبرت الراعي الأميركي على رفع غطائه عن أصدقائه في الأنظمة المخلوعة. فبالإضافة إلى الحرج الأخلاقي الذي ينطوي عليه الدفاع علناً عن أنظمة مجرمة ترتكب المذابح، لاحظ الساسة الغربيون أن القتل أفضى في كل مرة إلى تضخم جسم الاحتجاجات وانفلات قيادها، بعد أن تتحول المسألة إلى ثأر لطوفان الشعوب عند زعيم واحد ينفضّ عنه مريدوه خشية مشاركته الغُرم. وقد حدث ذلك في تونس، ومصر، واليمن، حيث تأخرت الإدارة الأميركية في حسم اصطفافها لحين انتحار الحاكم بإطلاق النار على مواطنيه، من دون أن يدرك أنه يطلق النار على رأسه. وفي كل مرة، كان أوباما يخرج أخيراً ليجزم بضرورة رحيل النظام المعني وهو موقن بحتمية رحيله.
الفرصة التاريخية المتاحة للأنظمة التي تواجه احتجاجات ولم تذهب بعد إلى حد استجلاب الثأر ونداء الدم بسفك الدم، هو التنازل الذي قد يبدو مؤلماً عن حقوق الناس المصادرة طويلاً في الكرامة والحرية. وأقول: "يبدو مؤلماً" لأنّ تلك الجهات قد اعتادت امتلاك حقّ الغير طويلاً حتى أصبحت تصدّق يقيناً بأنه حقّها الذي يوجعها التنازل عنه. ولو كانت الأمور في نصابها العادل، وعرف الجميع ما له وما عليه، لما كانت هناك ضرورة للتنازل ولا ألمه، ولكان التنازل حتى عن السلطة نفسها غير مؤلم، لأنه لا يكون يعني خسران مكاسب ولا امتيازات مسروقة باستعمال السلطة نفسها، ولكان الحُكام ينامون ليلهم الطويل بلا كوابيس، على طريقة: عدَلتَ، فأمِنتَ، فنمت.
المهم أن الحكومات العاقلة حدّ إخلاص النية في إجراء إصلاحات حقيقية، وعدم المغامرة بمزيد من إغضاب أصحاب الحقوق بالتسويف، تجد نفسها أمام الأحجية المعتادة: هل نبدأ الإصلاح بالاقتصاد أم بالسياسة؟ وهو سؤال يخصّنا الآن فيما أعتقد، ونأمل بأن يبقى هو سؤالنا الوحيد. والكل يعرف أن الأمرين منضفران بحيث يتعذر معالجتهما كلٌّ على حدة. وقد وجدت الجواب عند كاتب نسيت اسمه، كتب: "الديمقراطية، هي الحرية والخبز". ويمكن التفكير ببساطة في قصة السجن في قفص من ذهب، لتذكر أن المعدة الملآنة في حيز بالغ الضيق لا تكفي. وكذلك التفكير بأن تجوال المرء طليقاً في الشوارع المفتوحة، وليس في جيبه ثمن رغيف، لا يكفي أيضاً.
الكرامة، التي اعتبرها جلُّ المراقبين في العالم غاية ثورة ربيع العرب، هي أن لا يُراق ماء وجه واحدنا وهو يتسول ثمن طعامه ودوائه ومأواه؛ وهي أيضاً أن يعيش في وطنه عزيز النفس كريم الناصية، لا يتنكّب ظهرَه أحٌد ولا يستعبده؛ ولا تصفعه يد أحد أياً كان بلا سبب، حين يظن البعض بأن "السلطة" التي منحها له مواطنوه ليحرس أمنهم وخبزهم تعطيه الحق بأن يتسلّط عليهم ويبيع فيهم ويشتري.
أما السؤال أعلاه، فيمكن حله بمعادلة بسيطة: "الكرامة = الديمقراطية = الخبز والحرية"، وهو تعريف عادل بما يكفي وكاشف بما يكفي أيضاً. ثم، أين الفخر في أن يحكم أحدٌ قطيعاً من العبيد الجائعين؟ ولذلك قال الرئيس الأميركي الحكيم بينامين فرانكلين، وهو يؤسس لأمة عظيمة: "أولئك الذين يتخلون عن الحرية الأساسية لقاء القليل من الأمن المؤقت، لا يستحقون الأمن ولا الحرية". فمن منّا يحب أن يكون من هؤلاء؟!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة