لم تتسنَّ لي زيارة مدينة رام الله، مثل الملايين المُحتجزة خارج سلك الاحتلال الشائك الذي يطوق فلسطين. لكنّ أحد الأصدقاء الثُّقات زارها مؤخراً، وعاد ليتحدث بأسى عن "مدينة التناقضات"، كما وصفها. قال إن الملمح الأول لهذه المدينة لا يشي بأنها فضاء واقع تحت الاحتلال؛ ففيها من مظاهر بذخ المقاهي وترف الفنادق والسيارات ما يفوق نظائرها في بعض العواصم العربية. ووجدتُ المصادر تؤكد أنّ مستوى المعيشة في مدينة رام الله أعلى فعلاً من غيره في مناطق الضفة المحتلة الأخرى، لأسباب أحيلت إلى وجود مقار السلطة والأمن فيها، وتحويلات الكثيرين الذين تغرّبوا ليجلبوا لها الخبز من المنفى، إضافة إلى وجود البعثات الأجنبية وما شابه.
وفي المقابل، كما لاحظ صديقي، تفتقر بقية المناطق المحــتلة خـــارج رام الله إلى أبسط مقومات البنية التحتية الأولية. وقال إن الطرق في كل مكان آخر بالغة السوء، حيث خصّت سلطات الاحتلال مستوطنيها بالطرق الدولية المحترمة، ومنّت على الفلسطينيين بمسالك وعرة تصلح لسير البغال والحمير والعربات في أحسن الأحوال. ويشترط الكيان لأجل ارتياد طرق المستوطنين، إما حمل جواز سفر أحمر (دبلوماسي)، أو الحصول على إذن منه، ليقول إن طريق فلسطين الوحيد إلى العالم لا بدّ أن يمرّ عبر هذا الكيان الاحتلالي نفسه. وتساءل صديقي: أي دولة ستكون تلك التي لا تربطها أي طرق حُرّة بالعالم؟!
سؤال وجيه، يثير جملة الأسئلة التي لم تَغِبْ منذ أوسلو وحتى اللحظة: ما الذي يجري في داخل فلسطين؟ ما الذي أمل به الذين هُجّروا من ديارهم واحتفظوا بمفاتيحها، وما الذي أصبح أبناؤهم يأملون الآن بتحقيقه ويقبلون به؟ أين تذهب أموال المانحين إذا كانت نسبة البطالة في الضفة أكثر من 25 % حسب تقرير وكالة الغوث الأخير؟ وهل يشكل بنــاء مدينة رام الله وحدها، لحساب النخبة الاقتصادية والسياسية غير النزيهة قطعاً، مشروع بناء الدولة الذي يتحدثون عنه؟ أهكذا جهَّزوا فلسطين إذن بالبنية التحتية اللازمة لإقامة الدولة؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ومثيلاتها الكثيرة، قطعةٌ غير مريحة للقراءة. ويرجح أن يكون الإحساس الناشئ نظيراً للعبث. والخلاصة البسيطة التي لا يحبُّ أحدٌ أن يواجهها باختياره ليست قصة جذابة:
صحيح أن السفينة الفلسطينية تصارع، موضوعياً، محيطاً من الأنواء. لكن دفّتها انتهت، منذ وقت غير قصير، إلى الأيدي الخطأ. وأخذ إبحارها المتعثر يبتعد بها بوضوح عن وجهتها الطبيعية، باتجاه ساحل مرتبك، ضيق، وغارق حتى الكتفين. وبطريقة غريبة عن المنطق، قريبة إلى الطبع البشري المعوجّ، يتعارك الرّبابنة المفتونون بأنفسهم على الدفّة في ظروف حرجة لا تغري بالقيادة. ويخالط المرء شعور بأن البعض يستريحون إلى استمرار مغامرة الضياع هذه، فقط لأنها تمنحهم فرصة القيادة و"الكشخة"، ولو على سفينة غارقة. وفي الطريق، يجري التخفُّف من ملايين الفلسطينيين وإلقاؤهم في البحر، وتفصيل عدد الناجين على قدّ الجزيرة الصغيرة الموعودة. قال صديقي العائد من رام الله: "لو رأيتم كيف يتقاتل الشعراء والمثقفون هناك على حضور المؤتمرات باسم فلسطين، وعلى شيء غير واضح! لو رأيتم كيف أن نفس المتعهد الذي يزود العدو بمواد بناء المستوطنات والجدار في الصباح، هو الذي يفاوض لأجل حرية الفلسطينيين في المساء! لو رأيتم حجم الخراب! ثمّ، ما الذي يجعل تاجراً يملك فندقاً بتصنيف 7 نجوم في رام الله، يرغب قلبياً بتغير الوضع؟".
صورة كابية، لكنها حقيقية جداً، حاول صديقي أن يخفف قتامتها مرة أخرى بالأمل. وقال في محاولة لاسترجاع الروح: "ربما تجب إعادة الأمور إلى منطقها القديم: لن يتحرّر الفلسطينيون، كلُّ الفلسطينيين بغير تحرُّر العرب. بل إنهم يقطعون شوطاً في منطقة الحريّة كلّما تحرر شعب شقيق".
أما الآن، وأمام استحقاق الاعتراف بفلسطين-الدولة، فإن دولة رام الله المحتلة المملوكة للنخبة؛ الشبيهة بقفص ذهبي واقف في أرض مقطوعة، تستدعي فقط عبارة الراحل درويش، بتعجُّبها البسيط، وبلا أيّ فلسفة: "ما أكبرَ الفكرَة.. ما أصغَرَ الدَّولة!".

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة