أيام استعمار القرن التاسع عشر، كان التسويغ العقلي لنهب الإمبريالية مقدَّرات الآخرين هو "عبء الرجل الأبيض". وقد اعتنق المستعمرون الأوروبيون أنفسهم، حدّ الإيمان، فكرة أنهم مُثقلون بمهمة نشر الحضارة في العالم البدائي، وتمدين "المتوحشين". وفي تلك الأيام، لخص الروائي العبقري جوزيف كونراد هذه الفكرة بعبارات غاية في الروعة، في روايته "قلب الظلام":
"إن غزو الأرض، الذي يعني غالباً أخذها من أولئك الذين لهم لون بشرة مختلف قليلاً أو أنوف أكثر تسطيحاً من أنوفنا، ليس شيئاً جميلاً عندما تُمعن النظر فيه. لكنّ ما يجعل فيه شيئاً من السلوى هو الفكرة فحسب. فكرة في خلفيته؛ ليس تظاهراً عاطفياً، وإنما فكرة؛ وإيمان بالفكرة لا تخالطه أنانية –شيء يمكن أن تقيمه نصُباً، وتنحني أمامه، وتقدّم له الأضحيات...".
وفي هذه الأوقات، لم يعد في العالم بدائيون يهزون الرماح ويطلقون صرخاتهم المُبهمة من الأدغال الغامضة. ولذلك، أصبحت تسويغات الإمبريالية عصرية أيضاً: "الحرب على الإرهاب"؛ "النضال من أجل نشر الديمقراطية". وقد عبّر عن ذلك، بلغة غير روائية، الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، حين قال إنه يقاتل من أجل نُصرة الخير على الشرّ، ويغزو لينشر قيم الديمقراطية -القيم الأميركية- في كل أنحاء العالم. ولم يُخالطه أدنى شكّ بأنّه الرجل المُختار لإنجاز هذه المهمة الجليلة.
هذا الخطاب نفسه تقريباً، هو الذي تستخدمه الاحتلالات المحلية، المسماة "ديكتاتوريات". وهي احتلالات حقّاً، واحتلالات فريدة في أكثر من مُعطى: فصاحبها شخصٌ فرد، مثل الإسكندر المقدوني وجنكيز خان؛ وهو يقوم باحتلال مواطنيه وغزو أراضيه، باستعمال جيش من مواطنيه أيضاً. وهو يغزو بغاية الاستيلاء على ما للناس؛ ويعتبرهم متخلفين، ويعمل على إبقائهم متخلّفين وبلا صوت قدر الطاقة، ليظلوا أعجز وأجهَلَ من أن يسعوا إلى إسقاطه.
ولنلاحظ التقاطعات الهائلة بين خطاب الاحتلالات المحلية وخطاب الإمبريالية: المُحتلّ المحلي يدّعي لنفسه العصمة الإلهية والتكليف الإلهي أيضاً؛ ويشكو من أنه مثقلٌ هو الآخر بعبء "الّرجل المختار". وفي كل يوم، نسمع واحداً من المُختارين المحليين المهدَّدين وهو يقول إنّ الخراب والفوضى سيحلان حتماً من بعده، ولذلك يبقى إشفاقاً على النّاس من مغبّة غيابه. وفي أكثر من مكان عربي، يستخدم قادة علمانيون حتى العظم، فجأة، شيوخاً معمّمين ينسبون إلى نفسهم العصمة أيضاً، ممن يُفتون بأن التمرد على الحاكم خروج على الملّة، لأنّه وليّ الأمر بأمر الله. وقد أصبح طلب خبز الأولاد وبعض الحرية "فتنة"، وإيقاع بين الإخوة وتخريب للأوطان. بل إن خطاب المحتلين المحليين يتماهى، حرفياً، مع خطاب الاحتلالات الأجنبية، حين يسندون لأنفسهم أيضاً، مع بوش، مهمة "الحرب على الإرهاب"، ليحاربوا رعاياهم بالجملة.
هذا التطابق الذي يلامس التماهي في منطق السُّلطات الأجنبية والمحلية، وما ينتجه من تداعيات متطابقة على واقع العرب، يعرض حقيقة بسيطة، واضحة ومؤلمة: إن العرب لم يتحرروا أبداً من الاحتلالات المتعاقبة حتى هذه الساعة. وإذا تغير "عبء الرجل الأبيض" إلى "عبء الرجل المختار"؛ وحلت محلّ الجيوش الأجنبية جيوش محليّة تَقتُل الناس في الشوارع؛ وإذا كانت مطالبة الناس بنزول الحاكم المستبدّ عن ظهورهم تمرّداً وإرهاباً تستوجب الاعتقال والقتل؛ وإذا كان خبزُ النّاس ومقدرَّاتهم مسروقة وواقعهم متخلف؛ وإذا كان هؤلاء الحاكمون المقدّسون أكثر قرابة للإمبراطورية وحرصاً على مصالحها من حرصهم على رعاياهم، فأيّ معنى للقول بالاستقلال والتخلص من الاحتلال؟
لا عَيب إذن في اعتبار ثورات الربيع العربي حركات تحرّر وطني من الاحتلال، لا أقل من احتلال إمبريالي في مسوغاته وخطابه وتجلياته وتداعياته. وبنفس الطريقة التي تقدّس بها الإمبريالية غزوها، وتقدّس بها الديكتاتوريات المحليّة غزوها أيضاً، فإنّ هناك كلّ منطق أخلاقي وعملي في تقديس المواطنين العرب المحتلين (اسم مفعول) نضالاتهم ضدّ الاحتلال، أيّ احتلال. الأمر في نهاية الأمر، صراع بين فكرتين، على طريقة كونراد: فكرة تجعل غزوَ واحتلالَ الآخر، المختلف والأدنى، شيئاً قميناً بالعبادة وتقديم الأضحيات؛ وفكرة تجعل من مقاومة الآخر، المختلف والمتعالي، ليس تظاهراً عاطفياً أيضاً، وإنما إيماناً لا تخالطه أنانية –شيئاً قميناً بأن يُرفَع نُصُباً، ننحني أمامَه، ونقدّم إليه النُّذور.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة