كان تعرّفي الأول إلى فرقة العاشقين في العام 1981، حين شاهدت بثاً تلفزيونياً لإحدى حفلاتها. وكان المُلفت في تلك الفرقة هو الاندفاع المتحمس البائن في أداء أفرادها، وكذلك براعتها في توظيف التيمات والإيقاعات القريبة من روح الناس. وقد زاوجت الفرقة بين التعبير الحركي التراثي من خلال الرقصات الشعبية، وبين الأداء الشعري لمقاطع من شعر المقاومة الفلسطيني، وبين القوالب الموسيقية والمقامات العابقة البعيدة عن التغريب والنخبوية، لتضيف إلى جاذبية العرض وتفرّد مناخاته.
الآن، وبعد جيل تقريباً من ذلك التعارف الأول، تغيّر كلّ شيء تقريباً ولم تتغير "العاشقين". وأطلّت المجموعة على الجمهور في مهرجان جرش هذا العام بنفس ذلك الاندغام الصّوفي في الطقس الموسيقي الآسر، بنفس اللباس "الخاكي" والكوفيات على الأكتاف؛ والأهم من كل شيء، بالفنّان الذي يقطُر غناء وعشقاً: حسين منذر. وعندما يغني هذا الرّجل، فإنّه يغيبُ عن دنيا النّاس ويُؤدي بفرح طفل، فلا يَسعك إلا أن تنفعل معه.
في أواخر السبعينيات وعقد الثمانينيات، انشغل كثيرون من الفنّانين بالتجريب في الأغنية المختلفة. البعض أسماها الأغنية "الوطنية"، وآخرون، "السياسية"، "الملتزمة"، "النضالية" "الإنسانية،" أو "البديلة". وكانت تلك التجارب، بغض النظر عن التسميات، تبحث عن الجزء الناقص في الأغنية "العاطفية" السائدة. ولأن المسألة الفلسطينية هي التي حضرت بقوة في مقدمة القضايا التي تشغل العرب الباحثين عن استعادة الوعي، وجد الفنّانون في الثيمة الفلسطينية تعبيراً يختزل أشواقهم ومشروعهم الجمعي. وقد عكس ذلك التجريب الغزير في الأغنية "الملتزمة" حالة مدّ ومناخات آملة تشجع على توظيف كل الأدوات، ومنها الأغنية، في الدفع بمشروع النهضة وتحرّر الإنسان.
في هكذا مناخات صحية، يذكر المتابعون (وكانوا كُثراً) أولئك الفنانين والفرق التي انخرطت في ذلك المشروع الفني: في لبنان مارسيل خليفة و"فرقة الميادين"، وفهد يكن، وخالد الهبر، وإبراهيم محمد صالح  "أبو عرب"؛ وفي مصر، الشيخ إمام عيسى وعدلي فخري؛ وفي سورية سميح شقير؛ وفي الأردن، فرق "الرايات"، ثم "بلدنا"، و"الشراع"، و"المخيم"، و"البداية"؛ وفي فلسطين كاميليا جبران وفرقة "صابرين"، وفي ليبيا فرقة "الأجاويد". وغير هؤلاء ممّن أنسنتنيهم السنون. وفي تلك الأيام، كان النّاس يحتفظون بأشرطة هؤلاء ويستمعون إلى أعمالهم بالسرّ في معظم البلدان، لأنهم كانوا مسجلين عند الأنظمة الرسمية "خطرين".
لكنّ التجريب في هذه الأغنية لم يلبث حتّى تراجع، مصحوباً بشيء من فقدان الاهتمام الجماهيري بها. وعندما بدأ الأمل يغادر الروح العربية، مُخلياً مكانه لشعور طاغ بالهزيمة، أصبح البعض يرون في الأغاني التي تُعابِثُ روح المقاومة والأشواق العليا نوعاً من تعذيب النفس، أو افتراقاً عن الواقع على الأقل. وباستثناء فنّانين قلائل كانَ ارتباطهم بمشروعاتهم الفنية عُضوياً ووجوديَاً بحيث مكنّهم من الاستمرار، وجدَ آخرون أنفسهم نهباً لشعور باللاجدوى، فأوقفوا مشروعاتهم أو تحوّلوا إلى ثيمات فضفاضة أكثر عمومية. وعموماً، تجمّدت معظم الفرق المذكورة.
في تلك الفترة، كان الحَظر الذي فرضه الإعلام العربي الرسمي على انتشار هذا النّوع من الأغنية، بشكل ما، مكافأة للفنانين المشتغلين عليها. فمنعها يعني أنّها مؤثرة، ويمكن أن توجّه الوعي الشعبي في اتجاهات خطرة فقط على البِنى الأوتوقراطية السكونية المتشبثة بالسُّلطة. وبطريقة ما، كانت الأغنيات التي تذكر بالحنين إلى الأرض المُستَلبة، أو تتحدث عن تَعب العُمال المصريين الذين يَشقَون بحمل "شيكارة" الإسمنت، أو عن صديق غادر مطروداً بقسوة الوطن، كانَت هذه الأغنيات تخيف، لأنّ السُّلطات فهمت العلاقة بين هموم الإنسان العربي المختلفة وبين وجودها نفسه. وكانت تعرف أنّ تذكيره بما يوجعه ربما يدفعه إلى النهوض ضدّ السّبب في صناعة هذا الوجع وإطالة أمَده.
تلك الفكرة عبرت عنها فرقة العاشقين في نشيدها الذي تقول في مقطع منه: "والكلام المباحُ ليس مُباحاً، ونغنّيه، فالأغاني سِلاحُ". وعلى أنّ كلمة "سلاح" ليست شاعرية، فإنّ الأغنية هي بلا شكّ أحد أشكال المقاومة الضرورية، وهي أحياناً بيانٌ سياسيّ بالغ الجدية، يوصل فكرته بطريقة غير عادية.
حبَّذا لو يكون السلاح غِناءً إذا كان لا بُدّ من السلاح. وليتَ لنا تعلّق فنّاني فرقة العاشقين بالفكرة وبالأمل، وهم الذين لم يتوقفوا عن الإنشاد للحياة، لأنهم عاشقون حقيقيون!..

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة