يعودنا "رمضان"، فيغيّر شيئاً من رتابتنا، ويوقّع تنويعاته الطقوسية على تكراراتنا اليومية المُضجرة. ومثل كلّ زائر يختلف علينا سنوياً، يزداد تعارُفنا به بازدياد التلاقي. ومثل حال المعارف القدماء أيضاً، تحمل عودته الذاكرات على ارتياد البدايات، حينَ كانَ رمضان فتىً مثلما كنّا. ونستعيد ملامحه آنذاك، ونقارنها بتقاسيمه الأخيرة، فيتكاثف فينا الانطباع بأنه تغير هو أيضاً، مثلما تغيرنا.
ربّما عمِلت عليه آلة الزمن، كما عمِلَت علينا، فاكتهل وعبَس. ربّما تأثّر أيضاً بالعولمة، وبالطفرات الاقتصادية و"الطّفر"، مثلما تأثّرنا، فتعب وانحنى. لكنّ الأكيد أن شكل لقاءاتنا به قد تغيّر، وعواطفنا أصبحتْ أكثَر اختلاطاً: شيئاًَ يشبه مغترباً نشتاق عودته، لكنّ زيارته الصيفيّة تغيّر ترتيباتنا، وتحمّلنا أحياناً أثقلَ مما نقدر على حمله حتّى لا نبدو "مقصّرين".
أيّام رمضان الطفولة، كانَ السّائد بساطة الحال؛ لا هُوَ كانَ كثير المطالِب، ولا النّاسُ كانوا مُدّعي سعةٍ بغير سعة. كان يطرأ شيءٌ على موائدنا، لكنّه لمْ يكُن كثيراً. كُنّا ننقَع شراب "السُّوس" في المنزل، نضعه في قُماشة نظيفة ونعلقها على صنبور الماء المفتوح بمقدار تمرير قطرات. وكان من احتيالنا على الوقت مراقبة الشراب الغامق وهو يتقطّر في الإناء على مَهله، ويبدو لوهلة وأنّه لا يمكن أن يملأه في بعضِ يوم.
"القطايف" أيضاً كانت مختلفة وتخصّ رمضان؛ لم تكُن تتوفّر طوال العام لمن شاء، أو لم يكُن النّاس يريدون استنزاف خصوصيتها بالعثور عليها في غير وقتها. ولم تكن القطايف بالقشطة شائعة. كان النّاس يصنعون الحشوة من بعض الجَوز، وأكثر من جوز الهند الأبيض الأرخص ثمناً، والأكثر من السُّكر الذي لم يكن غالياً أيضاً كما هو الآن. وكان القَطرُ يبدو فائضاً لكثرة السُّكر في قطايف الفقراء.
لَمْ تكُن هناك فضائيات تتزاحم على جيوب المشاهدين. كانت دراما رمضان هي المُتاحة على شاشة التلفزة المحليّة، لمَن كان لهم ترف امتلاك تلفاز. ولم يكُن هناك شيء ينافس "غوّار الطوشة" ومقالبه، ولمْ تكُن هناك مناسبة ليسمعه أحدٌ وهو يتحدث في السيّاسة، فيقرّر مشاهدته أو مقاطعته. وأحياناً، يدعوك جيران لديهم تلفاز للسهر بعد الإفطار، فتكون كأنّك ذهبت إلى "شَرم". وفي الغالبْ، كان الرجال والأولاد ينتشرون في الحارة بعد الإفطار؛ الأولاد يلعبون، والرجال يتسامرون على باب البقّالة. أمّا الشباب، فيرتادون مقاهي وسط البلد للعب الورق. والنرجيلة كانت فقط من "التمباك"، بلا منكِّهات، ولم يكُن نادل المقهى يحتاج إلى قائمة، ولا المُرتاد يَحتاج إلى محفظة مليئة. كلُّ شيء كان بسيطاً.
لا أتذكّر من رمضان الطفولة أنّ الشُرطة خصّصت دورية لتنظيم المُتزاحمين على محلّ عصير أو على باب سوق. ولا أتذكر أنَّ الناس كانوا يتخوّفون لدى قدومه من ازدياد احتمال الإصابة بحادث سير، أو في مشاجرة بسبب السَّير. ولم نكن نذهب ونعود متوترين وداعين لأنفسنا بالسلامة ممن يحيلون سياراتهم طائرات والشوارع أهدافاً للقصف.
كانَ رمضانَ لمّا يصل بعد يوم الأحد، عندَما جُنّ النّاس في الطرق. لا أحد يريد أن يتوقف على دوّار، ولا أن يُفسح مساحة لصاحب طريق. وكأنّ النّاس تذكروا كلّهم فجأة سحب مبلغ من البنك، أو شراء شيء قبلَ أن يداهمهم رمضانُ غَداً؛ وكأنّها حالة طوارئ أو إنذار بزلزال. هكذا كان حال شارعنا في عزّ الظهيرة والحرّ. السّيارات-الثلاجات تقف على أبواب المحال مزدوجة بلا ذوق؛ والسائقون المستعجلون بلا سبب يتجاوزونك في الشارع الضيق بعكس السير، وكأنّهم يسخرون من سياقتك الركيكة، ويغلقون الاتجاه المقابل ويتشابك كل شيء مثل خيوط الصوف. وتقطع ثلاثمئة متر في ثلاثة أرباع الساعة.
والولائم، لم تعُد ممّا قسَم الله، وإنّما أن تُقسِّم نفسك فتولم لضيوفك من الخارج، بخدمة التوصيل، إمعاناً في إكرام الضيف والتضييق على نفسك. وأنْ يدعوكَ أحَدٌ، يعني أن يستنفر كبرياءك، فتدعوه على أحسن مما دعاك عليه، والرزق على الله. وقد لا يكون الدَّاعي مُحبّاً، فهو يضطرك إلى مغامرة الرّكوب قبيل الإفطار، حين يرى الكثيرون كل الإشارات خضراء من شدة الاشتهاء، وعمى البصيرة، فيقتلونك.
لو كان رمضان يتغيّر، إذن لأبطأَ علينا ومَا رعى لنا ودّاً. لكننا نحنُ الذين تغيّرنا!..

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة