في الأصل، لا ينبغي للمثقف أن يُزاحِم على الصفوف الأولى عندما يَكون النّاس قد هزموا خوفهم وشرعوا بارتياد الطريق، لأنّ مهمته هي أن يتقدم عندما يسود اليأس، وتشتد الظُّلمة. وفي الأصْل، ينبغي أن يعْلو صوتُ المثقّف حين يَكون الآخرون صامتين، أو مُسكَتين، أو لا يمْتلكون الأداة للتعبير عن الألم أو الحُلم. أمّا حين يكتشف النّاس وسيلتهم للخروج من مآزقهم، فإنّ بلاغة المثقف تصبح عارضة، ومُسانِدة في أحسن الأحوال، وسيكفي الناس تلخيص قضيتهم في كلمات بسيطة، كما فعلت الشعوب العربية مؤخراً: "الخبز، الحرية". وهكذا، فإنّ المُثقّف التّقدمي، بَمعنى الساعي إلى الذهاب شوطاً أبعد أماماً بإنسانية الناس، ليس شخصيّة مُترفة، وإنّما مُطاردة ومُثقلة، ومُستعدة لتحمُّل المُعاناة. وعنوان تجربته هو: التضحية!
إذا كان هذا يَصلُح لوصف المثقّف الذي أعنيه، والذي يدّعي الجميع انتماءهم إليه، فإنه لا يُمكن تصوّر أن يكون هذا "المُثقف" منحازاً إلى أيّ سُلطة على الإطلاق، لسبب بسيط: إن السُّلطة، أيّ سلطة، لَمْ تكُن أبداً تقدميّة، وإنّما سُكونية بطبيعتها لأن هذا هو شَرط بقائها. وهكذا، فإنّ المثقف التقدّمي يغيّر مواقعه واصطفافاته، بحيث يعود مجدّداً إلى صفوف المُعارضة، حتّى للجهة التي كانت ثوريّة، إذا أصبحت سُلطة. فالسُّلطة تُغري وتُغيّر، كما أنه ليس من الجميل للمثقف أن يصبح  "بوقاً" للسلطة التي تمتلك كلّ أجهزة تكبير الصوت موضوعياً.
يُفكّر المرء في ذلك لدى تأمُّل السِّجالات التي تدور بين المثقفين في الفترة الأخيرة، حول الربيع العربي الذي تُحاول أن تُطلعه الشُّعوب التي قلَبت الأدوار، وأصبَحت هي التي تُنطق المُثقفين. ويصل الاشتباك إلى حدّ التخوين على أساس الموقف من الأنظمة أو ضدها. ولا يعجبني شخصياً إصدار حُكم مطلق على أساس الاختلاف في الرأي، لكنني أظنّ أن بالوسع اختبار موقف المثقف على أساس فكرة أظنّها لا خلاف عليها: إنّ منطقتنا ليس فيها أيّ نظام غير استبدادي ومُطلق. ولَمْ نُصادف في حياتنا أحداً وصل إلى سُلطة في بلداننا وأخلى الكُرسيّ لغيره باختياره، أو خالطه أيُّ شَكٍّ بأنّه صاحِبُ المعرفة المُطلقة والأحقيَّة المُطلقة.
الدليلُ على فساد الأنظمة، هي الهَوان والتدهور المستمرّين في حياة العرَب. أمّا الحديث عن نظام أكثر تقدُّمية من غيره، فهو اجتزاء للصورة، لإنّ هذا "التقدم" عن الآخرين يَظلُّ يُراوح في منطقة "النظام الرّسمي العربي" السالِبة، المفصولة بأكثر من خطّ عن منطقة النّاس وكُلَّ مُوجَب مُمكن. وليسَ مفهوماً كيف يُمكن لأيّ مثقف تقدّمي الاصطفاف إلى جانب جزء من هذا النظام الرسمي المنسجم في الجوهر، والمختلف في التفصيلات، والذي تديم مكوناته أنفسها بالتزوير والإقصاء ومعاداة التعدُّدية، بالذّريعة التي أهلكوها وأهلكونا بها: حالة الاشتباك مع العدو!
إذا كانَ أيُّ نِظامُ يُتخم سجونه بالآلاف من سُجناء الرّأي، ويُخصي مواطنيه بعصيّ الشرطة، ويؤلّه نفسه بتقرير أنه الباقي إلى الأبد، فإن قصفه "العدوّ" بالبلاغة والحديث عن الحُريّة لا يَخدع مَن يقرأُ زيف المشهد. ولا يَجْدُر بالمثقف بالذّات، المدّعي الوعي، أن يُبرّر أيّ تعاطف مع هكذا ترتيب. أما القلق على الناس من "القوى الخارجية"، فإنّ القوى الخارجية ظلّت تحتلَّ المُواطن العربي بطريقتين: أولاً، بعبوديّته لهذه القوى المحليّة شكلاً، الخارجيّة والغريبة عنه مضموناً، التي اختارت الانفصال عن همومه، ومصادرة رزقه واعتقال حريته؛ وثانياً، باغتيال هذه القوى طاقات المواطن وقطع لسانه وهدر كرامته، ليظلّ مرعوباً ومُصاباً بهاجس الدونيَّة والتبعيَّة للخارج الذي يحتله بوكلائه "المحليّين".
في أقصوصة لمكسيم غوركي، يتحدث عن "دانكو" الذي يقود جماعته للخروج من الظلمة بعد أن تكالب عليهم الأعداء والضيق:
-"ماذا أستطيع أن أفعل من أجل البشر؟" قال دانكو.
وعلى غير انتظار، فتح صدره بيديه، وانتزع من بين أضلاعه قلبه ورفعه عالياً فوق رأسه. كان يلتهب نيّراً كالشمس، وأشد نوراً من الشمس، فإذا الغابة بأسرها تجنح إلى الصمت والسكون، مُنارة بهذه الشعلة من الحبِّ العظيم للناس. وتلاشت الدياجير أمام نوره، وذهبت في عمق الغابة تتساقط مرتجفة في حلقوم المستنقع المتعفن. 
صاح دانكو: "إلى الأمام!". واندفع قدماً إلى مكانه في الطليعة، ممسكاً قلبه المتأجج عالياً، منيراً الطريق للبشر.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة