أتحدّث عن "الصَّبرّ"، الفاكهة التي تَنبُت على شجيرات الصّبار العجيبة المتقنفذة العَدائيّة، التي تُهاجم القاطفين بالشَّوك. وحتّى الفاكهة حُلوة المذاق المليئة بالحبيبات الصَّلبة، تخبئُ نفسها هي الأخرى في غلاف مجلَّل بشوك شَبحيٍّ غادِر، يعرفُ كيف يَحتالُ عليكَ وينغَرس في يَديكَ مَهما اتّقيته.
وقد ذهَبتُ لأبحثَ عن فاكهة الصَّبر هذه، في طريقي إلى أقاربَ أوصوني علَيه. وقادني البحث في يوم الجُمعة، وقد عَزَّ "الصَّبر" في منطقتي فلم أجدْه، إلى أسفل "شارع الأردن" من جهة وادي الحدّادة. وخطر لي أن السّوق الشَّعبي هناك لا بدّ أن يكون فيه كلُّ شيء، مثلَ جِراب الحاوي. لكنّني تورَّطتُ.
كانت زحمةُ السّير تَعصُر الأعصاب بعد تلك الظهيرة الجهنّمية في عزّ موجة الحرّ الأخيرة. والسّيارات تدبُّ دبيباً وكلّ يحاول أن ينفلتَ مِن هُنا أو يطير من فوق الآخرين لو استطاع. وتبينتُ في الأمام حافلتين صغيرتين تسيران متجاورتين فتغلقان الشارع، محمّلتين بعدد من الفتية الذين يلوّحون بالأعلام. وكان الخاطرُ الأوّل أن هؤلاء خارجون للتظاهر، في يوم الجُمعة ذاك. لكنّه تبيّن لي بعد أن تمكّنت من التقدّم أنهم خارجون في "فاردة" عُرس. وأمامهم كانَت حافلات مدارس كثيرة، خرج رُكّابها وراكباتها من النوافذ فرَحاً. وعندما فقدتُ صَبري ورَغبتي في البحث عن الصبر، وشرَعت بالتزمير والتغميز بالأضواء حتّى يفسحوا لي الطّريق، اعتقدَت النساء في الباص المجاور أنَني مُشاركٌ مُخلص في الفرح، فلوّحنَ لي.
انتظرتُ الوصول إلى أول فتحة للانعطاف عائداً باتجاه السّوق، فأتخلّص من الموكب، لكنّ سوء الحظّ لازمني فانعطف العُرس معي. وعندما وصلت السّوق، رأيتُ الحافلات الصّفراء تتابع الشّارع الرئيسي، واقترح الرّاكبون معي أن آخذ الشارع الجانبي إلى اليمين من عند السّوق الذي كانَ مُغلقاً أيضاً. وبعد أن سرت قليلاً في الشّارع الضيق، تبيّن أنّني علِقت. كانت الحافلات الكبيرة قد سلكت الشارع الرئيسي تجنُّباً لضيق الشارع الجانبي. واكتشفتُ أنّ السيّارات الصغيرة كانت قد سلكته قبلي، وبَعدي، ثم توقف الجميع في آخر الطريق، وترجّلوا من السيّارات. وحاولتُ أن أمزح من شدّة الغيظ مع الذين اقترحوا عليّ تغيير الشارع، فقلتُ: ماذا وراءنا؟ سننتظرُ حتّى ينتهي أصحاب الفرح من الغنِاء للعروس، وتودّع بيت أهلها وصويحباتها قبل أن تنزل! وأطفأت المحرّك. وسألتُ خليليّ إن كانت هذه نهاية ميّتة أم شارع نافذ، فأكد الذين أشاروا عليّ بسلوكه أنّه نافذ، وأن "الفاردة" قرّرت مصادرته وإغلاقه لبعض الوقت.
أسوأ من الحرّ الشديد والتوقيف الإجباري في الزقاق، كانَت الرائحة التي لا تُطاق في الحرّ الخانق، والمنبعثة من بقايا الخُضار والفضلات التي يطرحُها السوق وتخبزها الشّمس. ولَم يبدُ أحدٌ متضايقاً، سواءً أصحاب المحالّ القليلة الواقفين أمامها للفُرجة على العُرس، أو جيش الأولاد الذين أحاطوا بالسيّارات، وبعضهم يستغرب عدم نزولنا، أنا ورُكّابي، من السيّارة.
وبدأ الضّيق يخلي مكانه لشعورٌ بالتعاطُف؛ أوّلاً مع سُكّان هذا الشارع الضيّق المحكوم بقدر العيش مع مخلّفات السُّوق طيلة فترة الصّيف على الأقل. وثانياً، مع أصحاب العُرس الذين يحاولون اصطياد الفرَح والقَبض عليه ما أمكَن، وَإجبارَ العابرين الآخرين من أمثالي على المشارَكة والتزمير و"التغميز" في الموكب، ثم الوقوف بباب منزل العروس حتّى تزيد هيبة "الفاردة". وتدخَّل هوَسُ المهنة أيضاً، فتساءلت في نفسي: لمَ لا تُجري صحيفتي تحقيقاً في ما يَصنَعُه السّوق بسكان الحيّ؟!
نَظر أحدُ ركّابي وراءً باحثاً عن مَخرج من المكان والذّنْب، فاكتشف أنّ وراءنا حافلةٌ واحدة، وقد تخلّف السّائقون الحصيفون وراءً قليلاً لتجنّب الحَبس في عُنق الطريق. ونزلتُ فرجوت السائق أن يتراجع قليلاً فيُفسح لي مجالاً للخروج. وفعَل. وتطوّع الواقفون فأرشدوني حتّى لا أصطدم بعتبات البيوت أو السيّارات المصطفة على جوانب الزقاق. وخرجتُ أخيراً مغسولاً بالعرَق.
وبدأتُ "أتفلسف"، محاوِلاً غسَل الضيق بقيّةَ الطريق: لماذا يُخبئ "الصَّبرُ" نفسه عنّا وراء كلّ هذا الشّوك المُعادي؟ لماذا أحاط أهلُنا حواكيرهم بالصبّار؟ لماذا ليس لي إلفَة أبي مع "الصّبر" الذي كان يُعالج منه أكواماً ولا يغدَره الشوك؟ ولماذا تصوّرتُ أنني سأجدُ الصَّبر الذي لَمْ أجده في منطقتي، حتماً، في حارَة الفُقراء؟!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة