تغيّر الطّقسُ وتأثَّر المَعنى. كُنَّا ننتظرُ أن يُزهر لوز محمود درويشَ السَّنويّ مرّة أخرى، فنُصادف شيئاً من الشِّعر، نحنُ ورثَة الأرض المعجونة بهاجس الشِّعر، والتي غاَدرَها الشِّعر. والآن، أصبَحنا ننعى سنويّاً غيابَ مجموعة درويش الجَديدة، ونرثي لبدء هذا الخُواء الطويل الآخَر، بعد الزّمن الباهت الطويل الآخر بين المُتنبّي ودرويش، والذي لا نَعرف متى سيضيئُه كوكبٌ آخرُ.
الأمَة بلا شُعراء فقيرة، وشحيحةُ الوجود. ولَو كانَ الشِّعرُ ترفاً، إذن لمَا احتفى الإنجليزُ والعالَمُ بشكسبير، ولا اليونانيون والعالَمُ بهومر. لكنَّنا لا بُدَّ أن نقرأَ الشِّعر الجاهليَّ في المَدرسة الابتدائية حتّى نتعلَّم اللُّغةَ، ونتعقّب امتدادنا في الحَياة. ولا بُدَّ أن نقولَ الشِّعر، لأنَّه اللُغةُ بين الأرضي والعُلويّ، والذي يستطيع أنْ يَقولُنا فيفهمُنا الآخرونَ. وكَم نحنُ مُحتاجونَ إلى أَنْ يَسمَعُ حكايتَنا الآخرون، لكنَّ السّّرد انقطَع بغياب محمود، تماماً في اللحظة الحرجَة، قبلَ اكتمالِ الحكايَةِ وذَهاب العُقدَة.
ولا أرثيه؛ فالشَّاعرُ يتدبَّرُ أمرَ الاحتيال على الفنَاء البشري بطريقَة أكثرُ براعةً من توريث اسمه للأبناء، ليحفَظوه جيلَين. لكنَّني حزينٌ على أقدارِ الشُّعراءِ الذينَ يولدون مُصادرين سلَفاً لحسابِ قضيَّة ليسَت شخصيَّة. والشِّعرُ في الأصلِ شأنٌ شخصيّ بقدر خُصوصيّة حُبّ قيس لَيلاه. أمَّا أن يتحدَّثُ الشاعِرٌ ببلاغة عنْ الشَّخصي والمُشترك في شعبٍ كامل، فمُرتقى صَعبٌ، يَحُتُّ العاطفة، ويعصُرُ القلب.
من الفَريد الكثير في محمود-الشَّاعر، قُدرَته على استدراجِ الكلامِ في بيئةِ طاردَةِ للرّغبة في الكلام، ومهوَّسة بإخفاء المَعنى. وقدْ ظلَّ يقعُ على اللغة والمعنى، حتّى في داخِل الحصارِ، وعلى رصيف الانتظار الطويل المُضجر لقطار متأخر. حتى في المنطقة البيضاء المُجدِبة الرّؤيوية التي لا تشي بشيء حيثُ لا عَدَم ولا وُجود. وحتّى في القَفرِ الذي انكسرت فيه جرارُ الشِّعر القديمة، كانَ محمودُ يلملمُ الشَّظايا ويرمّمُ الجِرارَ مرّةً وأخرى بدأب النَمل، ويخبئُ فيها أحزان الفلسطينيين "لئلا يراها الجُنود، فيحتفلوا بالحصار" إلى أن "تصير الحَياةُ طبيعية".
واختيار الشّاعر العاديّ في زمن الاشتباك ليس شخصيَاً أيضاً؛ فيُحاكمونَه على تجريبه الفارق بين ألم المنفى في الخَارج، وبين ألَم العيش في الداخل المُعتقل والمنفيّ من طبيعيته. ويعذلونَه حين يحيّره تَعريف الإنساني، ويُغالطُه مَيل الكائن البشريّ إلى تفجير توتّره الداخلي، وتراوغه ضبابيّة الإحساس إزاء ملمَح نّاشز في اللوحَة الكُبرى التي يُحاول أن يَجعلها مثاليةً وواسعة للجميع، فيختار حّذفَ نصّ من مجموعته الكاملة. ولا يمتلِكُ الشَّاعر ترَف أن يغنّي للَيلاه، فيتَّهم بالنرجسية وخيانة الآخرين، الذّين يُطالبونَه بالعالَميَّة كجزءٍ من القضيَّة الوطنيَّة. بل، ولا يَستطيع حتّى أن يتدبّر أمرَ شُرب الشاي وحيداً معَ نفسه في مَقهى عُموميّ.
الآن، ذهَبَ محمود إلى ما وراءَ الأبديّة البيضاء، وتركّنا مع الكثير من الأسئلة والارتباك، فقط في المنطقة الأخيرة التي استطاع أن يستنطقها، بين الوجود والهُمود. وقلَّ كثيراً أولئك ينطوون على دأّب إعادة تغميق الكتابة كلما بهتت على بطاقة الهوية الفلسطينية المقصودة بالاغتيال: "سجل، أنا عربي". لكنّه ترَكَ للفلسطينيين جرار الشّعر المرمّمة التي تؤوي جوهراً سرّيّ المَكنون، مُنطوياً كثيراً على احتمال الحياة، والتي تجعَلَ حياة "الجنود" غير طبيعية أيضاً. وعلى طريقته في ارتياد العالَميّة، أضاف مسألة الوجود الفلسطيني إلى براهين المنطق الأرسطي: "محمود دريش موجود، محمود درويش فلسطيني، إذن: الفلسطينيون موجودون". وترك اسمَه لأصدقائه، أينما كانوا، ليقول الفلسطيني إذا سأله غريب: "ألا تعرفني؟ أنا من بلّد محمود؛ محمود درويش، ألا تعرف مَحمود درويش..؟!".

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة