في الأيام الخوالي، قبل هجوم الإذاعات ومحطات التلفزة الفضائية، كانت تجمع جيلنا المتوسط علاقة حميمة بالإذاعة الأردنية. كانت الإذاعة رفيقنا اليومي الأكثر حضوراً، بنشراتها الإخبارية، ومسلسلاتها الإذاعية، والقسط الوافر من الأغنيات المحليّة التي تتوزع على مدار الساعة. وفي تلك الأيام، لم يكن أحدٌ يجهل فنانينا الأردنيين، أو حتّى أسماء المذيعات والمذيعين والممثلات والممثلين في الدّراما الإذاعية. وبطبيعة الحال، لم يكُن هُناك أردنيّ واحد لا يَعرف أغاني الفنّان الخاص والمتميّز، توفيق النمري.
في تلك الفترة التي شهدت مأسسة الدولة الأردنية، كانت مسألة ترسيخ الفن الأردني غاية تحظى بالعناية الفائقة، في إطار بلورة هوية الأردن الحديث مكتمل الأركان. وقد عَمل المشتغلون في الدراما والموسيقى بلا كلل، في ظروف بالغة الصعوبة، في إعادة إنتاج التراث الأردني وتصنيفه، والتعبير عن تشكيلاته الاجتماعية المختلفة. واستطاع هؤلاء المخلصون حجز مساحة مناسبة للفنّ الأردني المتميز بنكهة محلية في إطار عربي. وكان الفنان النمري واحداً من الذين اجتهدوا في صناعة هويّة الأغنية الأردنية، بما توفّر له حينذاك من إمكانيات تشكل الموهبة جزءها الأعظم.
غنّى الأستاذ النمري للريفيّات العائدات بجرار الماء؛ والحياة البسيطة الحلوة، و"صبابين الشاي"، وحُسن المحبوب، والوطن. وكانت أغنياته قصيرة مكثّفة المعنى، مرحة الإيقاع، تنبض بالتماهي مع فتوّة المجتمع الأردني الناهض والمتفائل. وكان بوسع المرء أن يَشعر مُباشرة بأردنية الأغنية الأردنية لدى الاستماع إلى النمري، وأن يتصوّر ملامح الريف الأردني وأماكنه وحسانه. ولا يُمكن لأيّ عمل موسيقيّ بانورامي للفن الأردني أن يكتمل إن لم يتوقّف طويلاً عند أغنيات النمري التي حجزت لنفسها مكاناً عريضاً في التراث الأردني وأصبحت من الكلاسيكيات.
ربّما يستدعي رحيل الفنّان الكبير توفيق النمري من المعنيين بالأغنية الأردنية أن يتوقفوا عند تجربته الثرّة، وأن يعاودوا دراسة الأسباب التي جعلت أغنيات ذلك الجيل من الفنانين الأردنيين أكثر رواجاً وحميمية وأردنية، في الوقت الذي انطلقت فيه إلى الآفاق العربية الأرحب. ومن واجب الوفاء للذين اجتهدوا في وضع الغراس الأولى الواثقة للفنّ المحلي، أن يتمّ البناء على ما شيدوه، لا أنْ تذهب جهودهم أدراج الرّياح.
وفي هذا الصدد، ينبغي الاعتراف بأنّ الأغنية الأردنية تخسر المكان الذي ارتآه لها جيل الراحل النمري من الفنّانين الواعين لوظيفة الفنّ وخصوصياته. وبغضّ النظر عن المنافسة الكبيرة التي صنعها الانفتاح الإعلامي، فإنّ هناك قصوراً ذاتياً في رؤية المشتغلين على الأغنية الأردنية هو الذي يخرجها من باب المُنافسة. ولعل من أهمّ المشكلات، هجر ثيمات الأغنية المحلية جميعاً وتوجيهها نحو الثيمة الشعاراتية المُفرطة، بحيث لم تعد تعكس بيئة الأردن ولا المشاعر الإنسانية للأردنيين. وبالإضافة إلى ذلك، تطغى الإيقاعات واللهجات والتيمات الغربية الأخرى على هذه الأغنية بحيث لم يعد بالوسع تمييزها عن تراث الدول الشقيقة.
وليس المقصود هو انفصال الأغنية الأردنية عن امتدادها الثقافي والبيئي، وإنما التمّيز في إطار التناغُم والترابط العضوي مع الفنون المجاورة، وبشكل يغني هذا المزيج بالنكهة الأردنية الخالصة. ولا ينبغي التقليل أبداً من أهميّة هذا المُعطى الثقافي المحليّ الخاصّ واعتباره ترفاً، وإلا لما تعبَ جيل الأستاذ النمري من الفنانين المؤسسين في خلق هذه المساحة التعبيرية الأردنية التي تليق بعرضها على الآخرين. ويعرف الذين شهدوا تلك الفترة أنّ الفنّ لم يكن حينذاك وسيلة للغنى أو الشُّهرة، ولَم تكُن وسائله الوسامة والأداء بالجسد، وإنّما كان عملاً مُجهداً قوامه التعاشق مع الفن، والقدرة على الصمود أمام الكثير من المحددات والضوابط الموضوعية والاجتماعية.
كانت أغنيات الأستاذ النمري "ضمّة ورد" مقطوفة من حديقة حميمة، ومقدمة "من عاشق لمعشوق". وقد لونت باقة أغنياته نهارات الأردنّ ومساءاته، وما يزال عبقها يضوع في ذاكرات الأردنيين. رحمَ الله توفيق النمري.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة