لم يكن الفرنسي العظيم رينيه ديكارت هو الذي ابتكر ممارسة الشكّ، لكنّه هو الذي اشتغل بالتنظير لها وفلسفتها. ولو لم يكن الشكّ نزوعاً بشرياً غريزياً قَبليّاً، لكانت المعرفة البشريّة قد توقفت عند الأوّليات التي كانت ستصبح يقينيات مُطلقة. لكنّ خاصيّة الشكّ حرّضت العقل على الاستمرار في إقلاق المعرفة وتفكيكها وإعادة تركيبها، ثمّ الخروج بترتيبات جديدة تضيف إلى جسم المعرفة البشريّة الكُلّية، بلا توقّف.
في المجتمعات النّمطيّة التي تقدّس التفسيرات الجاهزة، تتّسع مساحة التابوهات على حساب المساحة المُتاحة للاستكشاف والاستنطاق. ويعمل المستفيدون من التزمّت والثّبات على تخويف الآخرين من ممارسة الشكّ باعتباره خطيئة أو تجاوزاً للحدود، فيما يتناقض جوهرياً وعلى طول الخطّ مع فكرة العقائد والمنظومات الفكرية والمعرفية ذاتها. ولعلّ من البدهيّ أن كلّ منظومة جديدة لا بدّ وأن تكون قد أفسحت لنفسها مكاناً أولاً على أساس الشكّ في بنية سبقتها، كانت تُعامل بدورها على أنّها يقين لا يرقى إليه الشكّ.
في اللحظة المخصوصة، تجرؤ الأطروحة على عرض نفسها حين تعتقد في نفسها القدرة على اجتياز اختبار الشكّ، وترى في بنيتها تَراتُباً منطقياً داعماً لذاته ومنسجماً مع العقل والحسّ السّليم. وبهذا، تكون الأطروحة يقينية مؤقتاً، لأنها معرّضة دائماً لخُسران يقينيتها في الاشتباك مع موجودات العالم الأخرى دائمة التغير والإمكانات التي تتحقق فيه. أمّا الأطروحة التي تعرض نفسها مع اشتراط عدم إقحامها في أيّ اشتباك، ولا تتيح للعقل اختبارها بالشكّ، فهي أطروحة مسكونة بالخوف من الأساس، وتشكّ هي نفسها في منطقها.
على هذا الأساس، كانت خاصيّة حضارتنا الإسلامية في أطوارها الحيويّة الأولى -فيما أعتقد- ناجيَة من عيب التزمّت ومفتوحة على فكرة التفاوض. وكانت هذه السّمة هي التي شجعت العقل الراغب في إنتاج المعرفة في ذلك الوقت على زيارة مناطق الثقافات الأخرى، والانخراط معها في التحاور والجدل. وكان ذلك مُجدياً جداً، كما تبيّن، حيث ارتقى المشروع الناهض في الجزيرة العربية إلى مستوى حضارة كونيّة تحتفي أولاً باستيعاب المعرفة من أجل إنتاج المعرفة. وقد أهلها ذلك لقيادة مسيرة التقدّم الكوني ردحاً من الزمن. ولذلك، وإذا كان هناك من ينادي بالعودة إلى الأصول الأولى النقيّة للحضارة العربية الإسلامية، فإنّه يجب أنْ ينادي بالعودة إلى العقل النّقدي الشكّاك والمنفتح. أمّا غير ذلك، فهو التّغريب التام عن عقلنا الأصليّ رائع التأهيل.
إنّنا غالباً ضحايا لفكرة اليقين واستبعاد الشك، وعلى أكثر من مُستوى. فعلى سبيل المثال، جرى التحشيد ضدّنا في الفترة الأخيرة على أساس فكرة اليقين، حينَ روّجت المؤسسة الإمبريالية الغربية صورة نمطيّة جاهزة عن الإسلام والمسلمين باعتبارها مُعطى مُطلقاً. وقد وظّف المعنيون "خبراءَ"، بمن فيهم "مسلمون،" لتأكيد هذه التعميمات بحيث لا يرقى إليها الشكّ. وكانت النتيجة موافقة الجمهور هناك على سلوك المؤسسة التي استهدفتنا بالغزو. ومن ناحيّة أخرى، تطرح مختلف الأنظمة لدينا نفسها بقوة على أنّها مطلقة ويقينية: الأنظمة السياسية، والاجتماعية، والعقائدية، والمعرفية... إلخ. ولذلك، تسود لدينا حالة سكونيّة في هذه المناطق، مصحوبة بنوع من العقل الجمعي الخائف القانع والمقموع، الذي يستسهل تلقّف المُعطيات الجاهزة بلا شكّ فيها ولا استنطاق. لكنّ المفارقة، هي أن مجموع ذلك كلّه يوصف بأنه شعور غامض بانعدام اليقين.
ربّما يكون ذلك نتاجاً لاكتشاف النّاس لدينا عدم نجاعة هذه الأنظمة السّكونية الكثيرة جداً، التي قدّمت نفسها على أنّها مقدّسة وغير قابلة للمساس، والتي تتكشفّت نقائصها تباعاً بالخبرة، في نفس الوقت الذي يجد فيه العقل المروض والمعوّد على عدم الشكّ صعوبة في التعايش مع شكوكه الخاصة، ناهيك عن إعلانها جهاراً. ولهذا، كان الحراك الشعبي الأخير مفاجئاً لكثيرين، لأنّه في النهاية تعبيرٌ عَملي عن غريزة الشكّ التي انتعشت على سجيتها بلا أيديولوجيا. وربّما تكون النتائج الإيجابية أولى بركات استيقاظ الشكّ.
بالتعبير البسيط، يقول كثير من مواطنينا الذين أقلقوا النظم "اليقينية" وأسقطوها: "أحسّ الآن بأنني موجود". وهم محقون، لأنّ الكائن الجامد الصامت، الذي لا يشاغب ولا يقول جديداً، لا يختلف في وجودِه عن العدم. إننا بلا عقل يشكُّ، غير موجودين، ببساطة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة