فُجعتُ بصديق قبل أيّام حين رأيت الغضب يستبدُّ به فيخرجه عن أطواره وطبعه الرائق. ورأيتُه وهو ينقلب فجأة إلى كائن عدواني، فينهال بالتقريع على شخص آخر بدا أمامه أعزل، ومن دون سبب وجيه. كان الضحيّة الذي لم يَكُن سهلاً بطبعه، قد أُخِذَ بالمفاجأة فيما يبدو، فأخذ يعتذر بلا حَول عن شيء لا يعرفه، فأشفقتُ، وفسّرت أن رده المرتبك كان لأن الأول يتحكم بمفتاح رزق إضافي قليل له. لكنني رأيتُ صديقي الطيّب في قبضة الغضب منفّراً وفاقداً آدميتّه، وكان الموقف كلُّه يعقد اللسان، ويصيبُ بالغثيان، وأحببتُ المغادرة. وليست هذه هي المرّة الأولى التي يعرض فيها الغضب نفسه بصلافته المعروفة، ولا هي مناسبة لادعاء العصمة من الغضب، فمَنْ منّا لا يصادف يوميّاً مئة سبب تدفعُهُ للخروج عن أطواره؟ لكنّ موقفاً مُعتاداً قد يتخذ في لحظة شكل الاكتشاف والإدهاش، ويصبح هاجساً فيدفَع الواحدَ إلى تأمُّل نفسه وغيره. ويتذكر المرء بالتأكيد مواقف هربت فيها منه آدميته واستسلم لعدوانيته البدائيّة، فأساء إلى نفسه قبل غيره، وبلا سبب يستحقّ في كثير من الأحيان! وكَمْ من العلاقات الجميلة ذهبت، والأرواح أحياناً، لأنّ شخصاً لم يتماسك لحظةً ليقول لنفسه: لا ينبغي أن أتحدّث الآن، لا يجب أن أتصرّف الآن، فأنا غاضب!
بطبيعة الحال، لا يمكن بجرّة قلم شطب الغضب من الخبرة البشرية. بل إنّ حالة الغضب تُنسب إلى كافة الماهيات من أيّ مستوى وعلى أعلى مُستوى. وتُعامل هذه الحالة حسب السياق والمُسند إليه، وكثيراً من الأحيان بإيجابية، فتقول العرب: غضِب فلان لكرامته؛ ويقول الراحل درويش: "غضبٌ يدي.. غضبٌ فمي.. ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضبْ". وفي كثير من الأحيان، يعتبر النّاس الإنسانَ الحليم المنضبط ليّنَ العريكة، فـ"يدخلون بحِمارهم"، ولذلك يَحسُن استعراض الغضب أحياناً. لكنّ الغضب في أساسه، وضع عُصابيّ غير سويّ، ومدمر. ونحن نسنده إلى الطبيعة العَجماء حين تنهال بكل جبروتها على البشر الضعفاء بالعواصف والزلازل والأنواء، فنقول: غضبت الطبيعة! وفي الخبرة اليومية، رأينا جميعاً كيف يستطيع الغضب، حين يستبدُّ، أن يحوّل إنساناً إلى قاتل في طرفة عين.
ويبدو أن العربُ أمّة غضوبة، تاريخياً. فمثلاً، أودى غضب الملك كُلَيَب من ناقة البسوس بالرجل ومُلكِه وآلاف الأرواح؛ وتسبب سباق فَرسين، داحس والغبراء، في اندلاع الحرب الضّروس بين عَبس وذبيان؛ وأطاح عمرو بن كلثوم برأس الملك عمرو بن هند قبل أن يرتد إليه طرفه، ومن دون أن يحقق في السبب، بمجرد سماع أمّه تهتف: واتغلباه! ومثل ذلك الكثير. أمّا في هذه الأيام، فتنشأ خصومة مسلحة بين مدينتين من أجل ولد ينافس على انتخابات طلابية، أو ربّما يشتعل شجار لا تُحمد عُقباه لأنّ سائقاً أطلق نفير سيارته بطريقة أزعجت مواطنه، وقد يتقاتل النّاس ويسقط الضّحايا بسبب دهس دجاجة أو تشاتُم طفلين يلعبان في الحارة.
المُلاحظ أنّ الطبع الغلاب في الثقافة أصبح أكثر ظهوراً وتعقيداً بسبب المدنيّة والحداثة وضغوط العيش، فأصبحت أرواح النّاس في أطراف أنوفهم، وعقولهم في أفواههم وأيديهم. وربما ليس من المبالغة القول بأنّ الغضب في ثقافتنا، مقارنة بغيرها، أصبح مفرطاً وجائراً. وإذا أصبح الناس يغضبون بسبب السّفاسف، ومولعين بالشّجار بدل الحوار، فإنّ أحوالهم العامّة لا تشي بخير، ويصبح حيّزهم السلوكي والحياتي غابة، على الرغم من المدنيّة الظّاهرية. وبشكل ما، يبدو أننا نعيد إنتاج عقليّة داحسَ والغبراء في خبراتنا اليوميّة، وحتّى من دون إنتاج مُعلّقاتٍ إبداعيّة كما فعل عنترة العبسي وعمرو بن كُلثوم. وفي هذه الحالة، تصبح هذه الانفعالات الفائضة في غير وجهتها المناسبة تجليّاً للعبث، وعلى طريقة "الفراغ يعلِّم التطريز".
جاء في الحديث النبوي الشريف: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". ومُناسبة هذا الحديث في العيد ليسَت التنكيد بالتأكيد، وإنّما أمنية خالصة بأن تمر العطلة على كل منّا بدون أن يرى نفسه، ولا غيرَه، وهو يفقد عنان نفسه ويسفح شيئاً من آدميته المهدّدة أصلاً بلا رحمة. أتمّنى للجميع عيداً خالياً من الغضب وأسبابه، مليئاً بالدفء والإنسانيّة والمحبّة.. كلُّ عام والأردنيون والبشرية بخير.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة