لا أقصد بسؤالي الاستنكاري أعلاه أنّ الصّحافة "على رأسها ريشة"، فالصحافة في بلادنا ليس على رأسها ريش ولا غيره، وإنّما تدافع عن رأسها بأيديها وبالكثير من الطأطأة للرّيح التي تأتيها من كلّ جانب. وإنّما المثير للعجب هو أن تتعرض الصحافة للاعتداء هذه المرة من حيث تأمَن، من مواطنيها الذين تتحمّل ما تتحمل من أجل الدفاع عنهم ولحمل قضاياهم. وقد أصبحت "الموضة" الجديدة في الأردن، هي تخلّي مجموعة من النّاس عن مواطنتهم الطبيعية وموقعهم الطبيعيّ، والتحوّل إلى بلطجيّة ومشاريع قتَلة، يستهدفون مواطنيهم الذين يغامرون بالخروج إلى الشّوارع محتجّين من أجل تحقيق العدالة للجميع أولاً، ثمّ يجرؤون على احتلال صحيفة لأنّها نشرت خبراً عادياً جدّاً عن هرب باخرة!
كنّا نحسّ في العائلة الإعلاميّة بأنّ النّاس يعاتبوننا إذا تراخينا في وضع كلّ المعلومات التي نعرفها بين أيديهم، أو إذا ارتجفت أيدينا لدى كتابة خبر عن تقصير مسؤول أو سير مسألة في غير وجهتها. وكنّا نعوّل بالذات على مواطنينا في الانتصار لنا إذا طالنا ضَيم رسميّ، أو إذا رفعنا صوتنا مطالبين السلطات بتخفيف الخناق على حرّيتنا في أن نكون عين الناس وضميرهم. وقد فهمت من الزملاء أنّ الجماعة التي حاصرت مبنى صحيفة "الغد" ليلة الخميس على الجمعة، وأوقفت التوزيع وهددت بالقتل، هي من "المواطنين"؟ شيءٌ محيّر، وكأنما لم يكُن على طبق الصحافة من المتاعب ما يكفي!
ماذا لو كان لدينا "بوب ودوورد" الذي كتب خبراً في صحيفته، فأسقط رئيس الولايات المتحدة، وعاش بعد ذلك حياة طبيعية طويلة؟ ماذا لو كنّا صحيفة "واشنطن بوست" التي لم ترمش وهي تنشر القصّة التي أطاحت بالرؤوس الكبيرة؟ لماذا يصبح كل خبر، عن أيّ شيء لدينا محرّماً على الصحافة، وخطيراً على الصحفي، ومسبوقاً دائماً بكلمة "غيت" وكأنه نهاية العالَم؟ وإذا لم يشتغل الصحفيّون بالأخبار، فلماذا لا تُغلق الصُّحف ويبحث الصحفيّون عن عمل أقلّ عناءً؟ إنّ الذي يحدُث لدينا شيءٌ خطير، غيرُ مسبوق ومُخجل. وقد سألت عندما علمت بخبر الاعتداء على "الغد": أين كانت الشّرطة؟ كيف يجرؤ هؤلاء؟!
حقيقةً، كيف أصبح لدى النّاس الجرأة على تهديد صحفي من هاتف نقّال من دون إخفاء الرّقم، وبكل صلافة؟ سألتُ هذا السؤال للزملاء عندما تلقى أحد الزملاء مؤخراً تهديداً بالهاتف بعد نشره خبراً عن عصابة. قلتُ إنّ المتصل غير حصيف، لأنّه كان يمكن أن يتصل باستخدام خدمة إخفاء الرقم. فقال أحد الزملاء: إنّه ليس قليل الحصافة، ولكنه "مِش سائِل". وقد تبيّن بعد ذلك من سير القضيّة أن زميلي كان أبعد منّي نظراً.
بعد أن كنا نعول على المواطنين في الوقوف إلى جانب الصحفيين؛ وبعد أن أصبحَ الصحفيون يتعرضون تكراراً لتهديد مواطنين، كلاماً وفعلاً، مجترئين على هيبة الدولة وعلى الأخلاق، فإنّني لا أستغرب أن يطالبَ الصحفيون الأردنيّون بالحماية وأن تصبح مباني الصحف مثل سفارات الدول العدوانية، محاطة بحواجز الطرق والأسلاك، ولا بأس بعد ذلك من وضع كوخ شرطة على باب منزل كلّ صحفي!
أنا لا أبالغ، لأنّني عايشتُ قلق الزميل الصحفي الذي تعرض للتهديد بالقتل، ثمّ لمست قلق عائلته التي أصبحَ عليها أن تستنفر وتجتمع، وتستعدّ لمواجهة مع عشيرة أخرى. ثمّ أتصوّر مشاعر الزملاء الذين كانوا متواجدين في مبنى "الغد" ليلة الخميس على الجمعة، عندما أطبق عليهم حشدٌ بنيّة العدوان، متلفعين بالليل.
لا أعتقد أنّ هذه هي شيمُ الأردنيين. ولا أعتقد أن الغضب العصبويّ يليق بالأردنيين في القرن الحادي والعشرين. هل نحبّ أن تنشر الصحافة العالمية أنّ المواطنين الأردنيين يعتدون على مباني الصُّحف ويهددون الصحفيين بالأذى في الأردن؟ ولماذا يذهبون بنا إلى هذه المنطقة غير الآدميّة، لنصبح مثل دويلات أمراء الحرب الإجرامية في أفريقيا؟
عموماً، ستكون الإجراءات التي ستتخذها السلطات في هذه الحادثة، وفي كلّ أحداث البلطجة التي أصبحت، للأسف، حاضرة في المشهد الأردني، هي البوصلة التي تحدّد بالضبط إلى أين نتجه. أرجو أننا نتجه إلى خير!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة