في إحدى قاعات كلية الإعلام ، وبين جمهرة من الطلاب والطالبات، دار حوار حادٌّ بين متدين متّزن وبين عقلاني "متفيقه"؛ حيث برز هذا الأخير متحاملاً على الوحيين(الكتاب والسنة)، متَّهماً إياهما بالحجر على العقول، وبمناهضة جميع أشكال التفكير، وبمصادرة حقّ النظر والتدبر والتحليل! ثم راح ينشر في ساحة النقاش من علومه الناطقة بالإلحاد والطغيان، وينقل من أقوال أرباب الضلال والعصيان؛ ما يؤيد به رأيه ويقوي به حجته؛ ليظهر في أعين الحاضرين وقد أحسن الفهم والتعبير، وأجاد فن التأثير، وقطع دابر التجهيل والتغرير!
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال:
أيُّ عقل هذا الذي نريد أن نفتح له باب الكون ليتجوّل في أرجائه، ويعود من رحلته محمّلاً بملايين الأفكار والمبادئ والقوانين؟!
بل ما هي مواصفات ذلك العقل الذي نريده أن يحكمنا ويحاكمنا؟ ما هي قدراته؟ ما هي إمكانياته؟ ما هي صلاحياته؟ كم تبلغ مساحة تغطيته لدقائق الأمور وعظائمها، البادي منها والخفي؟!
ولنبدأ حديثنا ببيان كرامة العقل البشري وشريف منزلته عند الخالق جلّ وعلا:
نعم، لقد دعا ربنا تبارك وتعالى الناس جميعاً إلى النظر والتفكُّر؛ ليس في جنبات الكون (وفي أنفسهم) للتعرُّف على المكوّّن فحسب، بل حرَّض العقل على البحث في حكمة التشريعات المنزلة إليهم، لاكتشاف المقاصد الشريفة في الأمر والنهي. وحثّ على تدبُّر أحداث التاريخ لاستنباط دروسه وعبره،  وللوقوف على سنن الحياة وقوانينها؛ بما يختصر على اللاحقين زلات الأسبقين، ويوضح المنهج المبين للفوز في دنيا ودين... كل ذلك من خلال مئات الآيات الصريحة من مثل قوله تعالى: (أفلا يعقلون)، وقوله: (لعلكم تذكرون)، وقوله: (لعلكم تتفكرون)، وقوله:(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا...)...
وقد ورد في الأثر أن الله تعالى ما خلق خلقاً أكرم عليه من العقل، وما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي إلى هدى ويردُّه عن ردى...
ورُوي عن التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال: أفضل ما أُعطي العباد في الدنيا: العقل...
ورحم الله الإمام ابن الجوزي إذ يقول: فإن أعظم النعم على الإنسان العقل،لأنه الآلة في معرفة الله سبحانه، والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل...
ونعود إلى ذلك "العقلاني" وقد فاته أن يعلم أن للعقول ميزاناً تعرف به العقول الفقيهة الواعية من تلك المنفلتة الواهمة...
فإلى قرائنا الأكارم، وإلى كل  من يريد أن يقيّم عقله، أضع بين أيديكم هذه القاعدة الذهبية التي نصّ عليها الإمام المحاسبي، يقول فيها:
(إن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكيد-أي مغلوب بالشهوة-: إيثار الطاعة على المعصية، وإيثار العلم على الجهل، وإيثار الدين على الدنيا).
وعلى هذا، فإن كل عقل متصف بهذه الخصال مدعوّ للخوض في ميدان التفكر والتدبر والتأمل...وليُشرّق...وليُغرّب...وليغوص في أعماق البحار...أو ليرتقي مع النجوم والأقمار... أو ليسرح في الأودية والقفار... وليجتهد في الليل والنهار... فإنه لا محالة سيهتدي إلى الواحد الغفار...الملك العزيز الجبار... وسيركع خاشعاً منيباً، داعياً مبتهلاً: اللهم زيّن بي عبادك، واجعلني لهم مفتاح خير مغلاق شر، وأعوذ بك أن أكون مفتاح شر مغلاق خير..

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب