"إنهم يدركون أخيراً أن التغيير لا يعني الإصلاح؛ أن التغيير لا يعني الذهاب إلى الأحسَن" (فرانتز فانون: "المعذبون في الأرض").
الكثيرون من المتفائلين بالحراك العربي الذي مضى عليه أكثر من سنة، ربما تعجبهم فكرة "التغيير" في حد ذاتها. وفي الحقيقة، إذا ساءت الأمور بحيث لم يعد هناك قاع أوطأ يمكن أن تنحدر إليه الأمور، يقول الناس في بلادنا: "إذا ما خربت، ما بتعمر.. وأكثر من القرد ما سخط الله". وقد وصل العرب بالتأكيد إلى هذا الحدّ من السآمة والضيق بأحوالهم الرديئة، حتى أنّهم لم يعودوا معنيين كثيراً باحتساب كلف الانتفاضة من الدم والدموع، وغموض احتمالات خواتيمها. وكانت الفكرة وراء المغامرة بالدفع إلى التغيير، هي أنّ أيّ ناتج سوف يكون أفضل مما هو كائن.
أياً يكن، لم يكن "التغيير" رغبة نزوية لشعوبنا، مدفوعة بقلق وجودي فوضوي وبغض النظر عن النتائج. ولا شك أن الناس غامروا باحتمال أن ينتج التغيير وضعاً أكثر سوءاً –على الأقل لأنّ خيبة الأمل بعد بذل محاولة أخيرة مخلصة ستكون كارثية ومُقعِدة، لكنّ هذا الجيل الرائع من شبابنا المحرومين من الفرصة سعى إلى تغيير الحال إلى الأفضل بالتأكيد. أما أكثر النواتج المحتملة بؤساً، والذي لا يرغبه أحد على الإطلاق، فهو أن لا يعني التغيير الإصلاح ولا يذهب بالأمور إلى الأحسن.
الآن، بعد مرور سنة على بدء صحوة الشعوب العربية التي فاجأت العالم وأذهلتنا نحن، يكشف المشهد الحاضر عن صورة متباينة التفاصيل. نعم، لقد حدث تغيير في الكثير من الأمكنة التي طالبت بالتغيير. ولكن، هل يستنتج المعذبون في الأرض العربية أنّ التغيير قد لا يعني الإصلاح، وأنّه قد لا يعني ذهاب الأمور إلى الأحسن؟ سوف تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف الأمكنة والاشتراطات الظرفية. ومع أنّ الوقت مبكر على الاستنتاجات المُحبطة، فإن حصيلة ما تمخضت عنه أحداث السنة الذاهبة حتى هذه اللحظة، يميل أكثر إلى تحقُّق الإدراك الذي حذر منه فانون. آمل أن أكون مخطئاً!
الأكثُر قرباً وجدارة بالاهتمام -من دون أنانية- هو تعقب مآلات خبرتنا المحلية في هذا الشأن. وعلى رأس الخصوصية الأردنية في الربيع العربي، كانت حكمة الشعار الذي رفعه الأردنيون منذ بداية حراكهم بكل وضوح: "الإصلاح". وفي تقدير الكاتب الأميركي المحافظ كريستوفر تشانتريل، فإن "الإصلاح" يبقى مطلباً مُحافظاً، ولا يشبه ذلك المطلب اليساري بإحداث "تغيير تحويلي" أو "تغيير اجتماعي". ويستعين تشانتريل بمجاز يقرب فيه فكرة "الإصلاح"، فيكتب: "الإصلاح هو شيء يشبه ترتيب غرفة الجلوس قبل إقامة حفلة. وأنت تعلم أن الغرفة سوف تبدو في غضون ساعتين مثل كارثة، لكنك تفعل ذلك، مع ذلك".
يقترح هذا المجاز التصويري أن "الإصلاح" فعل متكرر غير نهائي. فأنت تدرك أنه لا بدّ من ترتيب غرفة جلوسك حتى تصلح للمناسبة القادمة، وتعرف أن ترتيبها سيتقوض لتعيد ترتيبها مع ذلك مرة وأخرى لأغراض أخرى. وبهذا، يختلف "إصلاح" الغرفة عن "تغيير" أثاثها وهيئتها بالكامل بعد كل حفلة أو مناسبة.
من دون الخوض في المفاضلة بين التغيير والإصلاح، يعني ترتيب الغرفة في اللحظة المعنية أن تكون مرتبة فعلاً ومريحة للحاضرين في الوقت المخصوص. ويجب إعادة ترتيب فوضاها بعد ذلك لتعود مريحة ومناسبة لاستخدام الجلوس العائلي على الأقل. وبتعبير عمليّ، يعني ذلك في السياسة تمكين أدوات الرقابة وتعزيز وسائل قدرة الناس على إعادة الترتيب إذا عمت الفوضى ولم تعد تحتمل. والمنطقة التي يمكن التفكير فيها بهذا الخصوص هي الانتخابات الحقيقية والجديّة التي يمكن أن تضع الشعور الشعبي في جهة الفِعل.
يفترض في الانتخابات أن تفرز نواباً يمثلون الناس بشكل حقيقي، ولا ينشغلون عنهم بانشغالاتهم الخاصة. وينبغي أن يكون هؤلاء قادرين على ضبط أداء السلطة التنفيذية بقدرتهم على إعادة ترتيب الغرفة والتخلص من مسببات فوضاها. ويجب أن يستطيع الناس دورياً تفقد هؤلاء أيضاً وترتيب المكان ليظل مريحاً وجاهزاً للحفلة التالية.
حتى لا يظل مواطنونا "معذبين في الأرض"، فإنهم يحتاجون إلى تغيير يعني الإصلاح، ويريدون رؤية أمورهم وهي تذهب إلى الأحسن.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة