لا يسعى هذا المقال إلى التنديد بالليبرالية والليبراليين بقدر ما يحرص على إبراز الجوهر الإيجابي في المشترك الإنساني، واعتباره من الحكمة التي أمرنا بالسعي إليها. وحين نشير إلى أخطاء الآخرين فلكي نسعى إلى تجنبها وليس إدانتها. فما يزال التمترس وراء جدران القوقعة سلوكا إنسانيا يتقاسمه أتباع الأتباع والأقوام على السواء.
لا تخلو فلسفة أو مذهب أو دعوة من مقومات إيجابية تتكئ عليها، ويكون بها قوامها. نستطيع أن نجد هذا، لو بحثنا، في كل الفلسفات والمذاهب. حين تستمع إلى الليبراليين يتحدثون ويشرحون لا بد أن تعجبك في كلامهم دعوتهم المفتوحة إلى الاعتراف بالإنسان. الإنسان الوجود والإنسان الماهية بغض النظر عن أيهما أسبق قطعاً للطريق على الجدل الوجودي.
الإيمان بجوهر الإنسان، مجرداً من أية هوية غير طبيعته الإنسانية الأولى، والانتصار لحرية هذا الإنسان واختياره، واعتباره في كل أحواله عاقلاً مسئولاً. هو الجوهر الإيجابي في الفلسفة الليبرالية.
ثم حين تكون (الليبرالية) هي الفلسفة الحاكمة جهاراً أو من وراء ستار، كما هو حالها في هذا الزمان ؛ فإنها تدخل، كما غيرها من الدعوات، أتون التمحيص والاختبار.
وفي مختبر التمحيص هذا يتساءل المراقبون والمتابعون ، وهذا بعض الحق، ليس عن مدى إيجابية القيم والأفكار في الفراغ فقط، وإنما في تجسداتها الواقعية أيضاً وفي حقيقة إيمان الأتباع أنفسهم بما يدعون إليه؟!
امتحان الالتزام والمصداقية هو جزء من امتحان العقيدة والنظرية. يلح الالتزام الديني على ضرورة الانسجام بين الحال والمقال. يتساءل القرآن الكريم مقرِّعا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟! كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )). ويتوعد الحديث الشريف بعذاب مهين للرجل يدعو إلى الخير ولا يأتيه، وينهى عن الشر ويأتيه. وفي الإنجيل من (ثمارهم تعرفونهم). وفي أخرى هروبا من المفارقة: (استمع إلى ما يقال ولا تنظر إلى من يقول).
وفي الاتحاد السوفييتي المنهار كان هناك أدعياء ماركسيون كثر ولكن لم تكن هناك ماركسية. وتبين فيما بعد أن نسبة المنافقين في الإطار الماركسي غلبت على الأصل، إذ بمجرد انهيار الكيان المادي الداعم انهارت العقيدة في نفوس الأغلبين. بل تحول هؤلاء، بانقلاب عجيب، إلى النقيض البراق بالسولفان الرأسمالي...
نتابع ازدواجية الموقف الليبرالي العالمي من (الإنسان) القيمة والجوهر؛ في مثل عابر لا يزال يلح على العقول والقلوب معا: مقارنة بسيطة بين الموقف من الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط والموقف من عشرات الألوف من المعتقلين حول العالم من غوانتنامو إلى غولاغ المعتقلات السرية والجهرية تحت شتى الرايات والعناوين، هذه المقارنة لا بد أن تحشر كل دعاة الليبرالية في هذا العالم مع الأنبياء الكذابين.
نترك للرئيس السوري بشار الأسد أن يفسر إلحاح زائريه من أمريكيين وأوربيين على طلب تدخله الإنساني في قضية (شاليط)؛ وهم لا يبالون بقضايا أكثر استحقاقا ومفتاحها في يده مثل قضية: الطفلة طل الملوحي والشيخ الثمانيني هيثم المالح، ولا نريد أن نذكر ملف آلاف المفقودين. نترك للرئيس السوري اختيار التفسير الذي يلائمه مقدرين أن هذا التفسير قد يضيء أحمر أو أخضر أمام ناظريه...
مما حاصرنا في مواجهة النفاق الليبرالي وازدواجية معاييره المواقف التي صدرت عن الإدارة الأمريكية والرئيس اوباما وحليفه ساركوزي والغرب المسيحي وكذلك عن بابا الفاتيكان أيضا في التعليق على أحداث الكنيستين في العراق ومصر..
نقضت هذه المواقف حقيقة الجوهر الإنساني الواحد، وقدسية النفس الإنسانية المجردة من الهوية، الحقيقة التي شدد عليها القرآن الكريم ((مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ..)) هكذا بإطلاق وبدون أي وصف إضافي. وضعتنا المواقف الليبرالية أمام إنسانٍ يُتساهل بقتله، بل خُلق أصلا ليقتل، أو ليكون حقل تجريب، يجرب فيها الليبرالي العالمي أسلحته الذكية، وإنسانٍ يغضب العالم الليبرالي للمساس به، والاقتراب منه...
 ازدواجية ذكرتنا بجواب الفنان السوري ( همام الحوت ) في إحدى مسرحياته: حين يفسر لماذا خلق الله للاعب النادي الأهلي عينين اثنتين؟! ثم يجيب على طريقته أليس ليقوم لاعب نادي جبلة بقلع إحداهما!!
خُلقنا لنقتل على امتداد الخارطة، أو لنُستغل.. وحين تصيب الشظايا الغبية بعض خلطائنا؛ يستنفر أوباما وساركوزي وقداسة البابا ودول الاتحاد الأوربي. ولا يشفع لنا، عند هؤلاء، أن يكون فينا بعض المهتزين نفسيا على طريقة الشاب الأمريكي الذي اعتدى على نائبة أمريكية وقتل خمسة من مرافقيها في لمحة بصر، لقد سترنا الله أنه لم يمر على رصيف مسجد قبل فعلته تلك..
ومما يريبنا في امتحان الليبراليين مفهومهم المزدوج للحرية، الذي يتبنى حرية أن( تكفر وليس حرية أن تؤمن)، وحرية أن (تفجر وليس حرية أن تستحي)، وحرية أن (تخلع وليس حرية أن تلبس). كل من يكفر أو يفجر أو يخلع، وكل من تكفر أو تفجر أو تخلع، تسلط عليه وعليها الأضواء الليبرالية، ويصبحان معا من نجوم التنوير أو الإبداع وضحايا التطرف والظلامية والجمود. ليبرالية دولنا وعلمانيتها تقدر بحسب عدائها لهويتنا وحربها علينا وليس بمقياس احترام هذه الدول لجوهر إنسانيتنا، وحرية اختيارنا...
حين يموت الإنسان يفقد هويته على الأرض. يبقى إنسانا فقط. إنسان يقف له نبي الإسلام: وحين يُراجع فيه، إنه من أتباع (البيعة والكنيس) وليس من أتباع المسجد!! يقول أوليس نفساً، وفي رواية أوليس إنساناً.. درسٌ في الليبرالية عمره ألف وخمس مائه عام لم يُحط به بعدُ ليبراليو القرن الحادي والعشرين..
لقد علمنا ذلك النبي صلى الله وسلم عليه أن نقدس ونحترم جوهر الإنسانية في الإنسان، وأن نغضب لهذه النفس الإنسانية في جوهرها المجرد من كل عنصر إضافي. في كتاب ربنا (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ )). أيضا بلا أي إضافة. وفيه أيضا ((وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..)) نعم أيها المسلمون علينا جميعا أن نحذر..

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب