بعد أن هُودت فلسطين، وأحكموا قبضتهم على أرضها جغرافيا، جاء دور تهويدها تاريخيا كجزء من مسلسل التهويد و«التطهير الثقافي»، المتمثل أخيرا في إعلان نتانياهو ضم المسجد الإبراهيمي الشريف في خليل الرحمن، ومسجد بلال بن رباح في مدينة بيت لحم، لقائمة التراث اليهودي.
ولأنهم يجيدون لعبة المراوغة والخداع والتآمر، بينما نحن منشغلون بخلافات فصائلية أنهكت الجسد الفلسطيني، وأهلكت الحرث، وأفسدت النسل، فلقد وضعوا كل ثقلهم وسعوا وخططوا ودبروا بليل، منذ اللحظة الأولى لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 67، لتهويد مدينة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلا، والمدينة المقدسة التي يفخر أهلها بأن طعام الفقراء فيها لحم وقمح!
أما لماذا وضعوا كل ثقلهم؟ ولماذا نحن في المقابل أضعنا المسجد الإبراهيمي الشريف نعاسا، بل كل مدينة خليل الرحمن بحاراتها، وأسواقها، وأزقتها، وأسبلتها، تماما كما ضاعت فلسطين نعاسا، على حد تعبير شاعرنا الكبير مريد البرغوثي؟
فذلك راجع لعوامل «ذاتية»، تتمثل فينا كعرب ومسلمين على وجه العموم، وبالشعب الفلسطيني خاصة، لتقصيرنا وعدم قراءتنا للتاريخ ومجريات الأحداث، وافتقار مدينة الخليل على وجه أخص لقيادات تاريخية كاريزمية تقود المدينة نحو نضال شامل ومبرمج، على غرار ما يحدث في بلعين، القرية النموذج، التي ما هانت، وما لانت..
وعوامل أخرى تتعلق بالآخر الذي يخطط، ويتآمر، ويضع الاستراتيجيات، ويلعب معنا لعبة «القط والفأر» أو «البينغ بونغ»، وبانشغالنا بقضية في موقع ما، بينما يخطط لجريمة أخطر وأخبث في موقع آخر، ونحن ـ وللأسف ـ «تنابلة» نهرول لاهثين متعبين، لنخرج في نهاية المطاف صفر اليدين، شعثا غبرا تعلونا الأتربة، وتتدلى ألسنتنا كالبلهاء، عطشا وتعبا!
البداية كانت بعد أسبوع واحد من الاحتلال عام 67، عندما أقاموا عرسا يهوديا جماعيا لشبان وشابات يهود، كانوا قد أقسموا على إقامة احتفالهم في مسجد ابراهيم الخليل إن هم انتصروا على العرب! وكان لهم ما أرادوا، ونحن نعاس!
طوقوا المسجد الإبراهيمي بعشرات المستوطنات، معتبرين أن الاستيطان في الخليل أكثر «شرعية» من الاستيطان في تل أبيب، ونحن نعاس.. أحرقوا المصحف الشريف في المسجد الإبراهيمي، ورموا صفحاته في دورات المياه، ونحن نعاس.. هجّروا 25 ألفا من «الخلايلة» من الحارات القديمة رويدا رويدا، ونحن نعاس..
احتلوا تل الرميدة في قمة أحد جبال الخليل، كما احتلوا المباني القديمة واحدا تلو الآخر وأسكنوا فيها عتاة الحاخامات، ونحن نعاس.. أطلقوا كلابهم المسعورة في الشوارع، نكلوا بالعجائز، أذلوا الرجال، أرعبوا الصغار وحولوا الخليل «مدينة أشباح»، ونحن نعاس..
نفذ غولدشتاين مجزرته فجرا والمصلون سجود، فسقط 50 شهيدا ونزفت دماء 349، ونحن نعاس، وعندما سئل الحاخام ليفنغر عما إذا كان يشعر بالأسف، أجاب: «إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة»!
إننا ما زلنا نعيش مرحلة من الأمية بمعرفة أولويات المستوطنين، ونتعامى عما يصرحون به علانية، وهو أن الخليل تشكل بؤرة الصراع، نظرا لوجود قبور أنبياء الله إسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام.
وبالتالي فإن التنازل عن الخليل يشكل نهاية أسطورتهم القائمة على الدجل وسرقة التاريخ والتراث، وحتى طبق الحمص وحبة الفلافل.. إنها رؤيتهم التي عبر عنها شاعرهم الصهيوني أوري تسفي غرينبرغ «المسيطر على الحرم يسيطر على البلاد»..
لو كنا نقرأ التاريخ حقا لفهمنا معنى تصريح نتنياهو، عند افتتاح جلسة حكومته في 21 فبراير 2010، حين قال: «إن وجودنا كدولة ليس مرتبطاً بالجيش فقط، أو بمناعتنا الاقتصادية، وإنما بتعزيز معرفتنا وشعورنا الوطني الذي سننقله للأجيال المقبلة، وفي قدرتنا على تبرير ارتباطنا بالبلاد»!
هكذا ضاع المسجد الإبراهيمي الشريف، وهكذا يتسرب من بين أيدينا على مرأى من الجميع.. لقد ضاع المسجد الإبراهيمي نعاسا، تعرض للنشل والسطو والسرقة والبلطجة والتهويد، على أيدي غلاة الصهاينة العنصريين مدعومين بجيش الاحتلال..
بينما ردود الفعل الباهتة القادمة من فلسطين وخارجها على قرار نتنياهو، تدل على أنه سيتم «نشل» مسجد إبراهيم الخليل بخفة ودهاء صهيوني، ونحن نعاس، نؤثر السلامة، ونأكل المناسف!

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع