كان ينبغي أن يؤشر 8 آذار هذا العام على تطوّر حاسم في قضية المرأة العربية. وانتظرت النساء من انتفاضة الغضب والأمل التي برعمت قبل عام أن تُنبت الكثير من الورد في حديقة المساواة التي شاركن بنشاط في زراعتها وأملن بحصاد أخضر. لكنّ الملامح العامّة لهذا اليوم الآخر من أيامهن تظلّ غامضة ومراوغة، ولا تغري بمقاربة متفائلة.
ثمّة طبقات كثيرة من الفصام والازدواجية ظلت تصاحب التعامل البشري مع ثنائية "الجندر" وأدوار النساء. فعلى المستوى العالمي، وفي القرن الحادي والعشرين الذي ينتمي إلى ما بعد ما-بعد-الحداثة، تعاني المرأة في العالم الغربي الديمقراطي نفسه من مظالم كثيرة. ففي حين أتيح لها قسط من الحريات الاجتماعية والاستقلال النسبي في القرار الشخصي، يُمارس ضد النساء هناك التمييز في المناصب، والأجور، ونسبة ومرتبة المشاركة في الحكم. وفي الحياة اليومية، تتعرض النساء والفتيات هناك للعنف، والاغتصاب، والتحرش الجنسي في العمل والشارع، والاسترقاق الأبيض وتجارة البغاء، وغير ذلك الكثير. ويكشف الفارق بين الخطاب التحرري النظري والواقع المعيشي للمرأة في الغرب عن فصام واضح، في نفس المجتمعات الأكثر تنظيراً لقضية المرأة، وأسبقها إلى الحراك النسوي النشِط.
وفي دول مثل الهند وباكستان وأفغانستان وبنغلاديش أيضاً، تعاني الفتيات من الزواج القسري والمبكر، وظروف العمل المرهقة، وكثرة الإنجاب، وعنف الرجال. وفي المجتمعات ذات الثقافات العريقة، مثل الصين واليابان، تنحني المرأة للرجل، وتكاد تركع، ولا يجوز أن تدير له ظهرها. ويبدو من المشهد العام في الحياة المدنية هناك أنها لا تتمتع بحصص يعتد بها في البرلمانات ومؤسسات الحكم والإدارة أيضاً. وهكذا، يتجلى هناك أيضاً نوع من الفصام بين الصعود المدني الملحوظ، وبين جمود أوضاع النساء على الأقل، قياساً بإيقاع التغير العام.
وفي عالمنا العربي المسلم حكاية أكثر تركيباً. فالنساء العربيّات وريثات ثقافة أصليّة كانت تئدُ البنات عند الولادة (هرباً من العار والفاقة). وعندما جاء الإسلام وأحدث انعطافة في الحياة العربيّة، أعطى حيّزاً كبيراً للمرأة في نظراته، في دلالة على عنايته بترتيب أوضاعها وتأكيد أهميتها. لكنّ تأويلاته اللاحقة التي احتكرها الذكور تقريباً، سُرعان ما فرضت على النساء كلّ أنواع الوصايات؛ بل واعتبر بعض التفسيرات الفقهية المفرطة في الأبويّة تقييد المرأة في الحركة واللباس، وإلزامها المنزل، واجباً على الرجل والمجتمع، باعتبار أنّ ذلك الحَبس يحميها من استغلال الرجال، ويحمي الرجال من فتنتها. وبذلك، أصبح عزل المرأة شرطاً ضرورياً للمجتمع الفاضل الأخلاقي والمستقرّ، ولحفظ كرامتها. وفوق ذلك، تجاوزت العادات والممارسات الثقافية قواعد الشريعة في صرامتها، كما يحدث في قتل "الشرف" الذي يوقع القصاص بالمرأة وحدها دون الرجل، ومن دون الشروط الشرعية لإثبات واقعة الزنا. كما يعفي المجتمع الذكوري الرجل من المسؤولية عن الجزء الخاص به من العلاقة المحرّمة التي لا تحدث بلا مشاركته. وهكذا، يعرض واقعنا فصاماً بين تنظيرنا عن عدالة ثقافتنا الإسلامية تجاه النساء، وبين ممارساتنا التي تخون هذا التنظير.
وفي "الربيع العربي" أخيراً، ظهرت النساء بكثافة مدهشة في الاحتجاجات، وواجهن خطر الضرب والاعتقال والقتل مع الرجال على قدم المساواة. وعبّرن عن وعي فائق حين تجنبن رفع شعارات نسوية حتّى لا يعاني الحراك من الفئوية والتقسيم. وكنّ يعتنقن الفكرة المنطقية القائلة بأن العدالة والمساواة والديمقراطية هي شؤون كفيلة بإنصاف الجميع، بلا تمييز جندري. لكنّ الثورات العربية التي أحرزت تقدّماً كشفت عن اقصاء آخر للنساء، بل وخاض البعض الانتخابات وكسبها على برامج تكرس انحراف التشريعات التي تميّز ضد المرأة وتحيّدها. وكما حدث كثيراً مع النساء المناضلات سابقاً، تُعامل النساء العربيات الآن مثل شاهد الزور، وكشريكات في الغرم ومحرومات من الغُنم. فصام آخر!
وأيضاً، تتظاهر نساء أحياناً من أجل تكريس الدونية لأنفسهنّ بمناصرة جهات تقدّس التفوق الذكوري، ويمارسن رقابة إخضاعية في تربية بناتهنّ، والكثير الآخَر مما يخون قضيتهن. كما يعاني الكثير من أنصار المرأة الذكور لدينا فصاماً مربكاً حين تتعلق معايير الحريّة بقريباتهم الإناث، ويكشفون عن ازدواجية أصلية، ويتبيّن أن ادعاءاتهم الظاهرية تقع في صميم الاستغلال الذكوري. وقائمة الشيزوفرينيا الكونية في قضية المرأة، تطول..!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة