في البداية، عرفت ماري، عاملة المنزل الآسيوية، لدى أقارب استضافوني في منزلهم أياماً، فقط بمقدار العبارة التي تقولها بالإنجليزية وهي تُحضِر فنجان القهوة وكوب الماء في الصباح: "القهوة ببعض السكر.. سيدي". وتغادر بانحناءة في زي العمل الأزرق اليومي. ثم تتابع شؤونها المنزلية وتنجز عملها بصمت، وتحاذر جداً حتى لا تقلق راحتك أو تظهَر حيث أو متى لا يجب. لكنّ الأصدقاء حدّثوني عنها في حديث عارض، ففتحت قصتها تأملات في عالَم هذه الخبرة البشرية التي تعيشها عشرات الآلاف من النساء، وتحظى بقليل من الانتباه.
قال أقاربي إن ماري تعمل عندهم منذ ثلاثة أشهر. لكنها على عكس سابقاتها، ترفض الخروج معهم من البيت منذ أتت، بحيث لم تغادره ولو مرّة واحدة. وهي أول من يَصحو في البيت وآخر مَن ينام. ويريدون أن يريحوها فلا تستريح، ويريدون إخراجها لتغيّر الجوّ فترفض بإصرار. وهي لا تتصل بأحد في البلد ولا في وطنها ولا تريد الاحتفاظ بهاتف خاص. وهي تطلب من أصحاب المنزل تحويل راتبها كله إلى عائلتها وتكتفي بحصتها من إعاشة المنزل، ولا تتحدث عن ظروفها وظروف أهلها لأحد. لكنها تبدو مع ذلك ذكية، تعرف عملها وتؤديه باحتراف، وبالكامل. وقال لي أصدقائي إنهم اكتشفوا أن لها ثقافة ومعرفة جيدة بحقوق العمال، حين كانوا يفاوضونها على الهاتف قبل استقدامها من بلدها. وقال صديقي إنّها كانت مرعوبة جداً بينما كان يصحبها من المطار إلى المنزل في اليوم الأول. ولمَ لا ترتعب؟ وما يدريها أيّ مصير ينتظرها وقد أسلمت أمرها للمجهول وعناية الله وحده؟ وما الذي يمنع أن تجد نفسها واقعة في فخّ لا فكاك منه دون أن يدري بها أحد، كما يحدُث للكثيرات ممن ينتظرهن جحيم أرضيّ؟
وفكّرت في ماري مثلما فكّر غسان كنفاني في حكاية "موت سرير رقم 12". وحاولت أن أتخيل قصة هؤلاء النساء اللواتي تحملهنّ الحاجة على مفارقة أبنائهن وعائلاتهن، والمغامرة بالذهاب إلى مصير مجهول مُغلق على كلّ الاحتمالات. وحزرتُ أن ماري ربّما تُعاقب نفسها باختيار الحبس الطوعي في المنزل الغريب، وعلى جريرة لم ترتكبها. ربّما أرادت أن يكون هذا الزمن الذي يجب أن تمضيه في الاغتراب جزءاً طارئاً من الحياة، يجب أن تعبره ببلادة الآلة، وبلا ادعاء الشغف بالاكتشاف ورؤية الأماكن. وربّما رغبت أن تقلل الذكريات عن هذه الخبرة أكثر ما يكون، حتّى تكون أسهل على النسيان. وربّما تكون اختارت الصمت لتعاقب الآخرين بالكتمان والفضول. لكنّ أيّ خيال لا يستطيع، مهما جمَح، أن يستبطن العالَم الكامل المؤثث بعذابات هذه الفئة من النساء في هذا العالم، اللواتي اختصتهنّ القسمة البشرية بهذا النصيب العجيب.
ونحنُ نتحايل على الفكرة أخلاقياً باستعمال تسمية مثقّفة: "عاملة المنزل"، ونتجنب الأوصاف الشعبية "الخدّامة"، "الّلفاية"، "الشغّالة"، ونعتقد بأنّنا نكفّر بالتسميات عن الحيثيات. لكنني قرأت في أحد المواقع خبراً عن الموضوع: "قال كريستوف ويلكه، الباحث في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش، إن "أكثر من سبعين ألف عاملة منزل (آسيوية) يعشن في الأردن، ويواجهن الانتهاكات نفسها التي تتعرض لها العمالة المنزلية الوافدة في بلدان المنطقة الاخرى". وأضاف أن "الانتهاكات تشمل أعمال ضرب؛ ومصادرة جوازات سفر؛ وتحديد الإقامة في المنزل؛ وتوجيه إهانات؛ وعدم الحصول على الأجور المستحقة؛ وساعات عمل مطولة دون الحصول على أيام عطلة أسبوعية".
وفي المقابل، يشكو أرباب العمل من العاملات. وقد قرأنا مؤخراً عن عاملات يسرقنَ البيوت التي يعملن فيها ويهربن، وأخريات يُسئن معاملة الأطفال أو يمارسن "مهنة أخرى" في غفلة عن عيُون المستخدِمين. ومع كلّ المبررّات التي قد تجعل استقدام عاملة منزل ضرورة لا مناص منها، فإن مما يستوجب التأمل أن يكون الأردن، الذي يعاني فقراؤه ما يعانون، بين أكثر ثماني دول عربية استيراداً لعاملات المنازل، ليضيف بذلك إلى التناقضات العجيبة بين المظهر والجوهر في حكايتنا الاقتصادية.
والحديث ذو شجون، لكنّني قلتُ لماري مخلصاً عندما انتهت الزيارة: "أنتِ إنسانة رائعة، ومحظوظة بمستخدميك، شكراً على كل شيء". وابتسمت هذه المرّة بودّ لا تذلل فيه.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة