ثمة فكرة مثيرة للرعب يعرضها الفيلم الأميركي "اقتل معي". وفي القصة، يريد شاب عبقري في البرمجيات الانتقام من المجتمع الذي انتهك خصوصية والده، الأستاذ الجامعي المكتئب، الذي انتحر بإلقاء نفسه عن جسر. وصادف في لحظة انتحاره تلك وجود فريق تلفزيوني صور الحادثة، واستغلت المحطة مشهد الموت وعرضته بتركيز لاستدراج أعلى مشاهدة. ويستخدم الشاب النزعة البشرية ذاتها، الفضول، للانتقام من ضحاياه الذين ساهموا في فضح مصرع أبيه، فيصمم موقعاً إلكترونياً يسميه "اقتل معي" KillwithMe، تقوم فكرته على قتل الضحية بوصلها بوسيلة قتل تدريجي، تعمل وتتسارع كلما زاد عدد زوار الموقع الذين يشاهدون موت الضحية البطيء على شاشاتهم مباشرة، ويشاركون في القتل.
في الفيلم، يساهم الإعلام أيضاً في تحريض الفضول القاتل عندما يدلي المسؤولون الأمنيون بتصريحات عن الموقع وطريقته، فيزيدون عدد الذين يعلمون، فيدخلون إلى الموقع ويساهمون في القتل. وبعد الحادثة الأولى، تُظهر الكاميرا عدّاد زوار الموقع الذي يدور بسرعة هائلة ويسجل أرقاماً خيالية، يتسارع معها تدفق السم –أو وسيلة القتل الأخرى المبتكرة في كل مرة- في جسد الضحية ويزيد معاناتها. وربما يسأل مَن يشاهد هذا الفيلم نفسه: ماذا كنتُ سأفعل لو كانت هذه القصة حقيقية؟ هل كنتُ سأتغلب على فضولي، فلا أشارك في القتل؟
على الأغلب، سيزعم أكثرنا لأنفسهم أنهم سيتغلبون على فضولهم ولا يشاركون. لكنّ غَلبة الفضول البشري التي يجسدها الفيلم تبدو أكثر واقعيّة، مع ذلك. فمثلاً، نعرف كم يُقبل أكثرنا بشغف على مشاهدة الأفلام التي ترينا الأسود وهي تفترس غزالاً ضعيفاً؛ وسمكة قرش وهي تلتهم إنساناً مأخوذاً بالرعب؛ وأكثر من ذلك، نلاحظ كيف نتبادل بسرعة فيديوهات خاطفين يفصلون رأس ضحية بسكين، أو جلاوزة يعذبون مسجوناً.
بل إن هناك مشاهد من هذا النوع تمسُّنا وتخصّنا أكثر. فمع شيوع الفضائيات، تعوّدنا في السنوات الأخيرة على مشاهدة إخوتنا القريبين وهُم يُذبَحون: رأينا ضحايا القصف مقطّعي الأوصال في أفغانستان والعراق، وفي غزة وجنوب لبنان، وفي ليبيا واليمن، وأخيراً في سورية. وشاهدنا كذلك عذابات الأطفال الجائعين الذين يتخذون هيئة جلد على عَظم في الصومال، وصوراً أخرى كثيرة عن المقابر الجماعية، واختطاف الأطفال وتجنيدهم في الحروب، وضرب عاملات المنازل والزوجات، وتهريب البشر، وربط أحدهم ابنته بالسلاسل في حمّام المنزل عدة سنوات، وغير ذلك وغيره.
ودائماً، ظلت هذه المشاهد الدموية تحقّق أعلى نسب المشاهدة ويبحث عنها الناس ويتعقبونها. وكان من الطبيعي أن تثير معاناة البشر الآخرين في نفوسنا مشاعر الشفقة، لكننا ظللنا نشاهدها وكأنّ المُشاهد يريد أن يعذّب نفسه –أم أنّه أصبح يحسّ بمُتعة مازوشية، لأنّ ذلك الرعب يحصل لآخرين وليس له؟! لكنّ كثرة الفضول أفضت بنا إلى نوع من الاعتياد فيما يبدو. والاعتياد أفضى إلى حتّ مشاعر الشفقة فينا إلى درجة تُقارب الحياد. وفي النتيجة، أصبح من المُعتاد جدّاً أن نشاهد الأشلاء البشرية والدم والوحشية على الشاشة ونحن نستمتع بتناول العشاء ونشرب القهوة ونتسامر، دون أن نشعر باشمئزاز أو تعاطف غامر.
بشكل ما، يعني هذا الاعتياد الذي صنعته عملية قتل منهجي لمشاعر التعاطف والنفور من الوحشية، تحييد فكرة الاحتجاج لدى الناس. وبالتدريج، أصبحوا يسكتون عن هذه الفظاعات التي تُرتكب في حق الآخرين، باعتبارها جزءاً من الأمر الواقع الذي لا فائدة من محاولة تغييره. وقد لاحظنا كيف كان الناس يصرخون ويتظاهرون في بداية كل مشروع قتل جماعي (حرب غزة والعراق وأفغانسان ولبنان، ومجاعات الصومال وغيرها) ثم تفتُر عواطفهم وغضبهم بالتقادم وسيادة الاعتياد. وفي الأخير، يمضي مشروع القتل مرتاحاً وعلى هواه، "وكأنه في بيته".
إن صمتنا لدى مشاهدة الجريمة وهي تقع، لا يمكن إلا أن يكون مشاركة في الجريمة. وقد أصبح هذا الصمتُ أمام القتل البشع مقبولاً لدى أكثرنا كمكوّن حتمي للحضارة الحديثة. وبشكل ما، قدم الإعلام المفتوح وعولمة المعلومات والصور عن المآسي البشرية إغواء للفضول وإشباعا له معا. وبكثرة العرض، والمشاهد، فالاعتياد والصمت، أصبحوا يشركوننا في القتل بالسكوت. وهكذا، أصبح الفضول البشري الذي طالما حرض الاكتشاف والتقدم، دعوة لاشتراكنا في مشروع غير بشري: "اقتل معي!"
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة