شاهدت أخيراً عمل الكاتب المبدع الساخر أحمد حسن الزعبي، من بطولة الفنان المبدع موسى حجازين، والذي يُعرض بلا توقف على خشبة المسرح منذ أكثر من عام. وقد عنون الزعبي عمله بعبارة بن علي التطمينية المتأخرة للتونسيين قبيل خلعه: "الآن فهمتكم"، في دلالة على محتوى العمل وعلاقته بالحدث العربي والمحلي الراهن.
وبمجرد بدء العرض، ذهبت الأمور مباشرة إلى البساطة مع اطمئناني إلى تفاعل ضيوفي مع العمل، وتفاعلي الشخصي معه أيضاً. وباختصار، تستطيع المواقف التي سجلها الزعبي وشخصّها حجازين ورفاقه باقتدار، أن تجعلك تحسّ مباشرة بأنك "في بيتك" ومع حياتك العادية، وتتيح لك الانخراط بلا كلفة في الحوارات المألوفة ومواطن الشكوى التي تختبرها يومياً مع مواطنيك. وقد ضحكتُ من القلب، وشكوت لله الزعبي وحجازين على نوبة السعال التي هاجمتني جراء الضحك كثيراً بعد نسيان الضحك تقريباً، تماماً كمَن يُمارس الرياضة فجأة بعد دهر من الكسل. وكذلك حزنت، عندما تحوّل العرض من السخرية المريرة إلى جدّية جارحة تختبئ وراء المرَح الظاهري.
بشكل عام، يُمكن النظر إلى الأعمال الفنية التي تتناول الواقع بالنقد المباشر من منظورين. فمن أحد الجوانب، تُمكن قراءتها كإشارة على انفراج في حريّة التعبير. وفي هذا الإطار، تمكّن العمل من تناول الأشياء بأسمائها: فذكر الشخصيات الأردنية المسؤولة بالأسماء، وانتقد أداء رؤساء الحكومات والوزراء، واستعرض قضايا الفساد المتداولة وأصحابها، ومطالب الاعتصامات والتظاهرات، وقوى الشد العكسي مثل البلطجية والنظام الأبوي، وآليات اختيار المسؤولين على أسس بعيدة عن الموضوعية، وغلاء الأسعار، والوحدة الوطنية وغير ذلك. ولم يكن مثل هذا التصريح متاحاً دائماً في الأردن.
لكن نظرَة أخرى يمكن أن تستحضر الفكرة الموثقة عن الوظيفة التنفيسية للفن، "تطهير الانفعالات". وفي هذا المنظور، تصبح جرأة المسرحية على محظورات المشهد الأردني جزءاً من حركة مسرح الحياة الأردنية الكبير في هذه الآونة، حيث يُشتبه بأن يكون السماح بالحريّة النسبية والمحسوبة في التعبير والاحتجاج جزءاً من عمليّة احتواء وإدارة للاحتقانات، بحيث يسفر المشهد كله في النهاية عن تقديم تنازلات لا تُذكر بالمقياس العملي، إلى أن يفقد الحراك زَخمه ويستهلك ذاته.
ولكن، ومع أنّ عمل الزعبي وحجازين يقول لنا ما نعرفه كله تقريباً بطريقة مكثّفة ومؤطرة على طريقة الفن، فإنّه يرسل رسالة قويّة الإيحاء، بداية من العنوان: "الآن فهمتكم". فكما شاهد الجميع، لم يكن "فهم" السلطة المتأخر المزعوم ذا معنى بعد أن احتاجت إلى ثورة حتّى تفهم المفهوم. وكما تقول المسرحية في المشهد الختامي، فإن تعامي السلطة عن التعامل بجدية مع مواطن الحُنق، واطمئنانها المخدوع إلى ضعف الناس وصمتهم، سيفوّت حتماً فرصة إصلاح العقد الاجتماعي، بحيث لا يعود "الفهم" مجدياً عند نقطة الانفجار.
وثمة فكرة ملفتة عرضتها المسرحية، هي هلاميّة الشخصية والمشهد والحقيقة في الأردن. وقد انعكس ذلك في تركيبة الشخصية الرئيسة المرتبكة والمشوّشة -ربما عن قصد. ففي أحد المواقف، يكون "أبو صقر" سُلطة لا تُناقَش في منزله. وفي موقف آخر، يصبح تابعاً قليل الشأن أمام السلطة الأعلى. وأحياناً يكون ضحيّة تعبّر بحساسية عن همّ المواطن والأسى على حال البلد حتى البكاء. وفي كل الأحوال، لا يعرف الرجل أين يصنف نفسه، ولا تعرف أنت كيف تصنفه: هل تكره تسلطه في منزله، أم تشفق على هوانه وتزلفه في الخارج؟ هل تعذره على فقره وعجزه أمام حاجات أولاده الساخطين، أم تعذله على تلبُّس قيادة لا يستطيع تحمّل كلفتها، بمجرد إطلاق شاربيه؟ هل تحترم "وسطيته" ومحاولته إمساك العصا من المنتصف، أم تراها ازدواجية وتهرباً من استحقاق الانحياز إلى جهة واضحة؟
من الطبيعي أن لا نتوقع من عمل مسرحي، مهما كان جريئاً، أنْ يجيب عن الأسئلة الكبيرة في مناخات عدم اليقين. وربما لذلك تكتفي المسرحية -من باب الواقعية أيضاً- بعرض فوتوغرافي ذكي لواقع يفرخ من الأسئلة أكثر مما يطرح من الحلول. لكنه يظل من الرائع اصطياد شيء من الضحك العزيز في هذه الأوقات المتوترة، وتنشيط حواسك وانفعالاتك -ولو ببعض السعال والغصة. وتخرج وأنت تتمنى، مع الرائعين الزعبي وحجازين، أن لا يأتي الفهم عندنا متأخراً أيضاً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة