المداخلة في الموضوع السوري وبال. وقد يخسر المرء جراءها صديقاً إذا خالفه الرأي. وقد رأينا ساسة ومفكرين كانوا متحابين، فأصبحوا يتبادلون الشتائم الحاقدة بسبب هذا الجدل المربك. ولهذه الخصومة خصوصية، شخّصها الكاتب نيكولاس دوت-بويلارد في مقالة نشرها موقع "ميدل إيست أونلاين" أوائل الشهر الحالي تحت عنوان: "سورية تقسم اليسار العربي"، فكتب: "على خلاف مصر وتونس، لم تتلق الثورة السورية دعماً من اليسار العربي بالإجماع. فهناك انقسام بين أولئك الذين يتعاطفون مع مطالب المحتجين، وأولئك الذين يخشون من تداعيات التدخل الخارجي السياسي والعسكري (في سورية) على حد سواء".
وفي الحقيقة، لكل من الأطروحتين مسوغاتها، لكن طريقة تداول اليساريين في المسألة كشفت عن دوغمائية عميقة، ورفض مطلق للآخر ومفاوضته، على طريقة التصلب اللاهوتي الراديكالي. بل لقد حرض البعض من جانبي اليسار بقسوة غير مسبوقة على زملائهم، فاتهم بعضهم "الآخرين" بمعاداة حريات الشعوب والتواطؤ مع نظام مستبد وفاسد؛ واتهمهم "الآخرون" بالانحياز إلى قوى دولية معروفة بإمبرياليتها ورجعيات عربية هي الأردأ على الإطلاق، لإسقاط نظام "ممانعة" على علاته، تمهيداً لتقسيم سورية وتدميرها فيما يضرّ القضية العربية جميعاً، على طريقة العراق.
والمشكلة أن هذا العراك الكلامي وصراع الديكة بين الكتاب والمفكرين النظريين، لا ينجز الكثير في صناعة واقع سورية ومواطنيها. وكالعادة، ظل الخاسرون هم السوريين العالقين في المعمعة، والذين يعايشون العنف والقتل والتشريد يومياً، وسيتحملون تداعياته المباشرة، والغد المفتوح على احتمال الكارثة أو استقرار جديد بكلفة الدم.
لكنني أكتب اليوم بإحساس بالغثيان صحبني لأيام. وكنت أطالع موضوعاً للكاتب بيتر بومونت، يتحدث عن انجرار الثوار السوريين أيضاً إلى ارتكاب ما وصفه بأنه انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وجرائم حرب. وذكر الكاتب، على سبيل المثال، حادثة إعدام عائلة برّي في حلب. وبعدها، اقتبس شيئاً لناشط منظمة العفو الدولية، كريستيان بنديكيت، الذي قال إن ابتهاج قوى الديمقراطية الغربية بجريمة قتل أفراد عائلة بري العزل، في الوقت الذي يزعم فيه هؤلاء بأنهم يريدون سورية جديدة تُحتَرَم فيها حقوق الإنسان "هو نفاق صارخ". وأضاف: "إنها ليست مسألة تكافؤ، ولا زعم بأن حجم تجاوزات الثوار يقترب بأي شكل من تلك التي ترتكبها القوات الحكومية –لكنها تتعلق بضرورة تبني نهج ثابت كلما حدثت تجاوزات وانتهاكات، وأياً كان مرتكبوها. ولا ينبغي أن يكون للمعارضة المسلحة رخصة مجانية لأن خصومها يمارسون الترويع، فتقوم بمعاقبة وإذلال المدنيين عبر سورية كلها". وبعد ذلك، أشار بومونت إلى مسؤولية حلفاء الثورة من العناصر الجهادية والخارجية التي لا تشفق على أحد.
وجرني الفضول الإنساني –قاتله الله- إلى مشاهدة فيديو تعذيب وقتل أفراد العائلة المذكورة وهم أشباه عراة وعزل ومهانون. وروعتني الوحشية (لا أقل من وحشية شبيحة النظام وهم يعذِّبون ويقتلون). ومنه انفتح فيديو آخر لشخص يذبح أسيراً عارياً مقيداً ويحاول فصل رأسه بسكين صغيرة غير حادة. كان شيئاً مفرطاً في البشاعة، ما يزال يصيبني بذلك الغثيان. وبالطبع، يتبادل المداخلون تحت الفيديو السُّباب ونسبة حادثة الذبح البشعة إلى شبيحة الحكومة أو الثوار، لكن المشهد يؤشر على مدى الوحشية التي وصلها الصراع السوري. وقد لفتني بشكل خاص ما أكدته "هيومان رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" من ازدياد انتهاكات الثوار السوريين لحقوق الإنسان، وتغاضي قادتهم الميدانيين عن ذلك.
وذكرني ذلك كله بفكرة جورج أورويل في روايته "مزرعة الحيوانات": كيف يمكن أن تتحول الحركات الثورية التي تطيح بالأوتوقراطيات إلى نسخة مطابقة أو أكثر أوتوقراطية ووحشية. وليس العيب حتماً في الثورة في ذاتها، لكن انحرافات قادتها وقصر نظرهم ربّما تتسبب في حدوث فظائع وجرائم كبيرة في حقّ المواطنين الذين تستهدف الثورات تحسين أحوالهم. والذين يعدمون أسراهم من مواطنيهم بلا محاكمة، وفي الشارع، وبعد استنطاق بدائي وتعذيب غريب -لا يمكن أن يكونوا في المستقبل حكاماً غير دمويين وجلاوزة. ولا يمكن أن يبرر "الثأر" أن تنسخ ما تثور عليه، فيصبح الثائر شبيحاً حاقداً بلا قلب.
الثائر ليس وحشاً، والقتل لمجرد القتل ليس عمله. والمظاهر "الأورويلية" في الثورة السورية، تشير إلى احتمال كارثي: الكثير الكثير من الدم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة