هاجس غريب دفعني إلى تفقد تاريخ استشهاد الشاعر المناضل علي فودة قبل أيام. وقد زار ذاكرتي وأنا أكتب مقال الأحد، فتركت الكتابة وبحثت لأجد أنه استشهد في بيروت في مثل هذه الأيام، يوم 20 آب (أغسطس) 1982. وكنت أتذكره كثيراً، وأقرر تأجيل الكتابة عنه إلى وقت مناسب؛ أم أنني كنت أتهرب من الكتابة عنه، خوفاً من سؤال ما؟!
علي فودة الذي تحفظه ذاكرتي، شخص طيب قليل التعقيد، ببساطة الصورة التي يرسمها وعي طفل غير معني بتوصيفات الفوضوي والمنضبط، والعنيد ولين العريكة. وقد التقيته في سنة ما من أوائل السبعينيات، وكنت ولداً في الابتدائية. وكان يمكن أن يسكن مثل كثيرين تحت طبقات الذاكرة -لولا أنه أهداني كتباً! وعندما يهديك شاعر كبيرٌ كتباً وأنت صغير، فإنك لا تنسى ذلك الزهو الأول الذي ينطبع في نفسك، مثل نقش الفولاذ الذي لا يُذهب بهاءه شيء.
وأكادُ أتذكر المكان –مقهى صغير في شارع سينما الحسين بعمان- وقد صحبني أخي الكبير ليلتقي بأصدقائه الشعراء. وكنتُ أجالس الشعراء، ولم أكن شاعراً نبغ مبكراً، فأستمع، وأكتفي بالإجابة عن أسئلتهم الودودة، وإنما بعربية فصحى سليمة تقريباً. ويبدو أن ذلك أعجب علي فودة في ذلك اليوم، فاهتم بي ووعدني بأن يُحضر لي كُتباً. ولَم ينسني ولا خذل انتظاري، فجاء في المرة التالية وفي يده رزمة من القصص، فيها شيء عن فيل يذهب إلى النهر، وأشياء أخرى. لكنني أتذكر منها بالتحديد، رواية هارييت بيتشر ستو: "كوخ العم توم"! وقد رتّب لي اختيار علي فودة ذلك الكتاب أول لقاء مع عالم المقهورين والمعذبين في الأرض. وتأسس في نفسي شيء أبعد من زهو طفل بهدية شاعر؛ شيءٌ عصي الوصف، ورابط خفي بالرجل الطيب الذي أهداني كتباً. 
الآن، بعد أن كبرت كثيراً، بحثت قليلاً فقط لأعثر على سرّ تأثري الدائم بعلي فودة. ووجدت جواباً مباشراً عن سؤالي في مقالة كتبها عنه أستاذنا الراحل عبدالرحيم عمر في العام 1980، قال فيها: "... وهو يحب الوطن والأصدقاء والكتب والأطفال، مثلما يحب التضحية والرصاص الذي يطلقه على الغزاة...". وإذن، كان حبه للكتب والأطفال هو الخيط الغامض الذي حدس به وعيي الطفل آنذاك، وجعلني أحب هذا الرجل أيضاً، وأتذكر تقاسيمه وطيبته بكثافة بعد هذه العشرات من السنوات.
وبعد ذلك، كتب عبدالرحيم عمر عنه أيضاً، وهو يرثيه في العام 1982: "المسافة بين الكلمة والموقف عنده كانت معدومة...". هذه العبارة من الشاعر الكبير تنتظم فقط في سياق متساوق، لا نشاز ولا تناقض فيه، يشكل كله علي فودة المنسجم مع طبعه بفرادة. وعندما قال علي فوده إنه يحبّ الوطن، ترك الدعة والوظيفة، وغادر إلى بغداد ثم بيروت ليلتحم عملياً بجسم المقاومة، ويشطب المسافة التي ربما أقلقته بين الكلمة والفعل. وكانت هذه طريقته في تجسيد التماهي بين الإنسان وموقفه.
لقد كره هذا الرجل تعالي المثقفين والمناضلين النظريين، وانفصالهم وراء جدران المكاتب والمباني عن الحياة الحقيقية الضاجّة في الشارع، فأحبّ كلمة "الرصيف". وأتذكر قصيدة رأيتها في الثمانينيات مكتوبة بخطه ومحفوظة لدى صديق، يقول فيها لجماعة القصور والترف إنه يترك لهم كل ذلك، وإنه حدد اختياره: "أما أنا، عادة، أكتفي بالرصيف". وقد طبّق هذا أيضاً، حين احتضن في مطبوعته: "الرصيف" جماعة الكُتّاب "الشعبيين" الذين رفضت المجلات المتعالية استضافتهم لأنهم ليسوا "شخصيات" ثقافية معروفة.
ثمة فرح خاص، خبرته عندما عرفت أن علي فودة هو صاحب قصيدة "الفهد" التي أنشدها مرسيل خليفة: "إني اخترتك يا وطني، حبّاً وطواعية.. إني اخترتك يا وطني، سراً وعلانية. إني اخترتك يا وطني، فليتنكر لي زمني، ما دمت ستذكرني. يا وطني الرائع، يا وطني...". فرحت، لأنني التقيت يوماً صاحب هذا الاختيار العالي وكان وفياً له، وجلست معه في مقهى، وأهداني كتباً.
وقد كتبت الآن عن علي فودة، وأحسّ بأنني لم أقل شيئاً مما أريد قوله عنه. لكنني أضع قلمي، فأجد وأنا معي ذلك السؤال الأخلاقي المضني الذي ربما كان يجعلني أؤجل الكتابة عنه: عن التطابق بين الكلمة والفعل.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة