للعمر أحكام، وكلما تقدّم المرء فيه شيئاً، ضاق صدره وأصبح كثير التبرُّم. وأنا أضيق وأتبرّم (وليجبر الله خاطر أصدقائي الذين يقولون لي إنني ما أزال "شبابا") من تقاطع طرق لا بدّ أن أجتازه يومياً في طريق العودة من الشُّغل. وهو تقاطع عريض يتسع لدوّار كبير، وما فيه دوار، وما عليه إشارات ضوئية تضبط مزاجات عابريه. وكلما أقتربت منه، استعذت بالله من الشيطان الرجيم. وكلما خرجت منه سالماً، لهج لساني وقلبي بحمد الله والثناء عليه. كل يوم أقف عليه، وأستعين بالله، وأشغّل "غماز" الانعطاف التحذيري، وأشرع في الاقتحام البطيء طلباً للعبور. ولا ينقطع سيل السيارات، ولا يتطوّع أحد فيتوقف فيدعني أمرّ. وكلّما تقدمت باعاً، انزاح سيل العربات المتتابعة ذراعاً، وتلّوى مبتعداً ليعبر من أمامي ويغلق عليّ الطريق حتى يعتدي على المسرب المقابل. وعند "الكتلة الحرجة"، انسلّ بانخطاف مغامِر، ويعلو عزيف الزوامير (وشتائم السائق الذي أوقفته قسراً وأخذت حقه في الشارع بلا شكّ).
حتّى لا أبالغ، يحدُث أحياناً أن يتوقّف سائق سَمحُ الخُلق، أو يتذكر اضطراره إلى موقف مشابه بعد قليل، فيبطئ ويتوقف، ويغمز لي بأضوائه الأماميّة، فأغمز له شاكراً وألوح له بتحية ودودة. لكنّ هؤلاء–كثّر الله من أمثالهم- قليلون. وفي الحقيقة، لا يُعطِّلُ السّير مرور سيارة أكثر من ثوانٍ، بل ويوفّر على الجميع حادث سير، وضياع وقت وحرق دم. لكن الأهمّ، هو مدلولات السلوك على التقاطعات التي لا تضبطها أضواء حمراء ولا صفارة شرطي. حيث ينبغي أن يحكم الانضباط الذاتي واحترام الغيَر. هنا يكشف المزاج الاجتماعي عن نفسه بلا تحفظ، ونعرف أينَ تذهبُ الأخلاق، وكيف تضمحلّ الأريحية وسماحة الواحد مع مواطنيه.
هل هي فردانية أم عُصاب، هذه التجليات التي تروج لثقافة "أنا وبعدي الطوفان؟" وهل يبقى السلوك الفردي شأناً شخصياً حين يصبح نمطاً أم أنه يؤشر على مزاج أمّة؟ في الوضع العادي، حين يكون الناس رائقين، يحلو لواحدنا أن يقود عربته باستمتاع مستمعاً إلى أغنية مرحة؛ ويحسُّ بأن الحركة منسابة، ولا يضيره التوقف ليتيح لمواطنيه المشاة عبور الشارع آمنين، ويسعد بإيماءاتهم الشاكرة. وعندما تتنكبه العفاريت، يسير كالمَوتور متجاوزاً الآخرين وفارداً ذراعيه على عرض الشارع. ولا يعتبر التريّث والسّماح لسائق آخر بالمرور قبله كياسة وتحضّراً، وإنما استهانة بفخامته، وتنازلاً عن حقّه في الوصول أولاً – وعادة إلى وجهة لن تفرّ إذا تأخر عنها دقيقة ولن تتوقف مسيرة الأمّة.
في تعريف العُصاب، أنه "يؤدي إلى التبعية والاعتمادية، والعدوانية، والاعتداد، والسلوك غير المناسب بين الأفراد إلخ..." والفردانية، في بعدها الأخلاقي، "اعتقاد الفرد بضرورة أن يطلق الأحكام ويفكر وحده، ولا يحترمَ شيئاً سوى تفوّق عقله الشخصي، وسيادة حقه الشخصي..." ويتناقض هذا على طول الخط مع مفهوم "التعددية" التي تعتبر "المجموعة –وليس الفرد- وحدةَ الاهتمام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وتصرُّ على أن تطلعات المجموعات ومصلحتهم ينبغي أن تعلو على رغبات الأفراد".
العُصاب والفردانية، مظهران لانقطاع الحوار الاجتماعي، وتعبيران عن احتضار الروح العامة وبحثِ كل واحد عن خلاصه الفردي. ولا يجب التقليل من معاني التزاحم على موقف الباص وإقصاء الآخرين بالأكواع والأكتاف، وأخذ دور الآخرين على طابور الخبز، و"تزريق" المعاملة في الدائرة الحكومة لتُنجز قبل الآخرين. إنّ ذلك ثقافة، وطريقة حياة، تعكس في النهاية أزمة أمة-دولة. وهي نتاج التربية والتعليم والعقل المدير للشأن العام، بحيث تكون الحصيلة: التوتر والعدائية و"التفشيش" والأنانية وتخلف الجميع بسبب التزاحم. وإذا سادت هذه الروح مؤسسة، فإنها ستفشل. وإذا سادت دولة، فإنّها ستفشل. وإذا سادت أمّة بكاملها، فستفشل أيضاً. وربّما يفسر ذلك –ببساطة- تلك الفروقات التي نتحدث عنها كثيراً بين انضباط الناس الأخلاقي وغيره بدوافع تصبح طبيعية بالمراس في العالم المتحضر، وبين ناسنا ودولنا المتخلفة والثائرة الآن على تخلفها. ولا بدّ أن معظمنا صادفوا تقاطعاً تعطلت اشارته الضوئية، واندفع الجميع مرّة واحدة إلى المنتصف بحيث لا يمرّ أحد. هل يشبه ذلك ما يحدث في السياسة، والاقتصاد والمجتمع؟
عندما أتوقف لأتيح لأحد عبور الشارع، أقول عادة: "المواطن الصالح هو الذي (يُقطِّع) إخوانه المواطنين،" وأضحك من التورية!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة