أصبحت "الديمقراطية" اليوم من أكثر المفاهيم التباساً مع تعقد الخبرة البشرية. فمن فكرة "حكم الشعب لنفسه" الإغريقية البسيطة، ولدت تفريعات "الديمقراطية الليبرالية"، و"الديمقراطية العلمانية"، و"الديمقراطية التمثيلية" و"المباشرة"، و"ديمقراطية الشعب"، و"الديمقراطية الإسلامية" التي اقتحمت قسماً من الخطاب الإسلامي، و"الديمقراطية المجتمعية" بوصفها ثقافة.. وهكذا.
وبشكل عام، يستخدم المفهوم ليعني ضدّ الشموليّة والاستبداد والدكتاتورية وما شابه. وهو يعني، بأحد المعاني، المساواتية وحكم القانون والحريات المدنية، وفصل السلطات، والتعددية الحزبية، وإقامة انتخابات. وتحت كل من هذه العناوين، ثمة أدبيات واتجاهات، بحيث يتوه المرء بين التنظير وبين التجليات الواقعية للمفهومات المجردة. وفي الحقيقة، أصبح الجميع لدينا مغرمين بمفردة "الديمقراطية" في خطابهم "الثوري" مؤخراً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بحيث أصبحت من أكثر الدلالات نسبية وتفارقاً.
وقد أدخلني في هذه الورطة مع أحجية "الديمقراطية" حوار مع صديق خلال زيارات العيد. وتحدثنا عن الوجهات المحليّة والإقليمية في ظل "الربيع"، وعرّجنا على هذا المفهوم قبل أن نخلص إلى النتيجة المشتركة التي انطلق منها الحوار: التشاؤم مما يجري هنا وفي معظم الأماكن العربية، والاعتقاد بأنّه لن يسفر -في هذه المرحلة على الأقل- عن تغيير تقدّمي يعتدّ به.
وصف صديقي المشهد في دول شقيقة أنجزت "ربيعها" فقال إن الانتخابات التي ينبغي أن تكون في القلب من الفكرة الديمقراطية، دفعت إلى السلطة بقوى غير ديمقراطية، بالتعريف. وسوف تفضي لاديمقراطية هذه القوى إلى حقن المؤسسات الرسمية ومراكز التأثير بفكر أحدي معتقد بأحقيّته، بحيث يلغي "الآخر" أو يُمعن في إضعافه على أقل تقدير. وستحاول هذه القوى تكريس سبل ثبوتها في السلطة، وضمان كسبها الانتخابات التالية بحيث تكرّر تجربة الاستبداد بطريقة أخرى. وقارن صديقي ذلك بخبرة "الديمقراطيات" الغربية في تداول حزبين على السلطة، حيث يحاول كل منهما خلال فترة حكمه تدعيم تواجده في المراكز الحيوية، وإنما بنسبة غير مؤثرة في التحصيل الأخير، بسبب تحكيم المعايير الموضوعية حُكماً وقانوناً، بحيث تظل فرصة كل الأطراف قائمة دائماً.
وفي مداخلتي، تحدّثت عن عقم الحديث عن الديمقراطية في ظل غياب "العقل الديمقراطي". وكرّرت فكرتي عن الخلل البنيوي في الأمل بتغيير ملموس في مرحلة لم يسبقها إعداد طويل وإعادة تأهيل معرفي للعقل الجمعي، بحيث يتقبل أفكار التعددية؛ والتعاطي مع الآخر؛ والرغبة في المشاركة السياسية والقدرة عليها. وهذا الواقع نتاج عقود طويلة من استفراد العقل الاستبدادي والفكر المنغلق بالتأثير والتحكم في التعليم والثقافة والإعلام، فوجد الليبراليون المغرّبون أنفسهم فجأة أمام استحقاق لم يُتح لهم الاستعداد له، والذي وضعهم أمام خيارين: الاستنكاف؛ أو المشاركة في تزويق ديمقراطية زائفة تفضي في أحسن الأحوال إلى "تفويز" القوى غير الديمقراطية نفسها.
وفي الخلاصة، وضعت في رأس صفحتي العنوان الذي خطر لي ليلخص فكرتي "الديمقراطية الاستبدادية". ثم قررت تفقد المصطلح المنطوي –ظاهرياً- على مصادرة، فاكتشفت أنني لم أبتكر هذا التعبير، وقرأت أن "الديمقراطية الشمولية: (هي) تعبير يدل على نظام سياسي ينطوي على إجراء انتخابات شعبية، وحق المواطنين في التصويت، لكنّ الشعب نفسه لا يملك أي سلطة دستورية تسمح له بالمساهمة في صنع القرارات الحكومية. وقد استعمل العبارة "برتراند دوجوفينال" و"هـ. كار"، إلا أنها اشتهرت في كتابات المؤرخ الإسرائيلي جيه. إل. تالمون".
لا فرق، فالتعريف يبدو مألوفاً. على المستوى المحلّي، أجرى الأردن انتخابات نيابية (وبلدية) بشكل متكرّر. وإذا كان يمكن اختزال مفهوم الديمقراطية في إجراء انتخابات، فإنّه يمكن الزعم بأن لنا تجربة ديمقراطية. لكنّنا إذا طرحنا السؤال الأساسي والبسيط على أيّ مواطن عادي: هل أشعرتك "الديمقراطية" هنا بأنّ لك أيّ حصّة في صناعة القرار السياسي أو الاقتصادي، وهل تشعر بأنك تشارك -بأيّ شكل- في تحديد أقدارك ووجهاتك ومستقبلك؟ فإن الجواب سيكون معروفاً ومتطابقاً إلى أقصى الحدود.
ولذلك، نشأ "الحراك" الأردني من عمق الإحساس بالعيب "الديمقراطي" في التجربة المحلية. وضغط المواطنون واحتجوا وكسبوا، كما يفترض، إصلاحات ديمقراطية أساسية. ولكن، وسواء بمشاركة كل البدائل المألوفة أو باستنكاف بعضها: هل ستبعدنا المعطيات المنظورة، ولو خطوة، عن "الديمقراطية الاستبدادية"؟ وهل بذل أحد أي جهد لتشجيع بديل؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة