كنت أستمع إلى خبر في إذاعة محلية عن "التوظيف بالواسطة" في أمانة عمان، أي بتجاوز الشروط الموضوعية، وتشغيل الناس على أساس الصداقة والعائلة. وقد ضبطت لجنة التحقيق تجاوزات كثيرة هناك. وبدا الخبر باعثاً على التفاعل: ها نحن أخيراً نجري تحقيقات في الفساد الإداري، ولا تخشى لجاننا في الحق سطوة مسؤول ولا لومة لائم. وإذن، لن يسرق أحد حقّ أبنائي في الوظيفة، فقط لأنه "مسنود" بعكسهم. ثمّ سرعان تداعت الشكوك:
هل يكون تحقيق "الأمانة" هذا مفتتح سُنّة حميدة؛ بداية لمشروع وطني مثلاً، يتعقب كل التنفيعات والتعيينات بالواسطة وإعمال كل شيء سوى الموضوعية والعدالة في الوظائف، من الأعمال الصغيرة إلى المناصب العليا؟ وإذا حصل، وجرى تصحيح الأوضاع ومحاسبة المسؤولين و"ترويح" الذين توظفوا بالواسطة، فكم مسؤولاً سيفلت من المحاسبة؟ وكم هم الذين سيبقون في أعمالهم ومناصبهم لأنهم شغلوها بغير واسطة؟
مذ وعينا، وجدنا "الواسطة" والمحسوبية دائماً جزءاً من طريقة حياتنا وثقافتنا في الأردن، بحيث بات يصعب تخيل البلد بلا واسطة. وبلا مبالغة، أصبح نصف البلد تقريباً يحتاج إلى وساطة نصف البلد الآخر، وبالتبادل، وفي الأمور الصغيرة والكبيرة. مثلاً، يحتاج المرء إلى واسطة "أهل الخير" إذا أراد تجاوز الطابور في الفرن، فيصاحب عاملاً يهرب له خبزه قبل الآخرين؛ ويحتاج "توصية" جار أو صديق إذا استدعي إلى مخفر وأراد أن يعامل بشيء من الحسنى، ولو كان غير مذنب بشيء؛ وهو يحتاج إلى صديق "واصل" إذا أراد تشغيل ابن له تخرج من الجامعة وأعياه العثور على وظيفة؛ وقد يحتاج إلى أحد يزكيه، حتى في موسم تشكيل الوزارات، فيصبح مرشحاً لوزارة.
وفي الأردن، الناس مقامات. فقبل فترة، اشترك فرد من عائلتي في حادث سير. وكان الانطباع الأول والمنطقي أن الطرف الآخر هو المتسبب في الحادث، وقد خرج من شارع فرعي إلى شارع تجاري كثير الحركة، فأصاب سيارتنا في جانبها وهي تصعد المرتقى، ووضعها في الجهة الأخرى من الشارع. وعندما وصلت المكان على إثر هاتف، وجدت الرجل يعتذر عن عدم انتباهه، وكان مهذباً جداً في الحقيقة. وعند قدوم شرطي السير، قدّم الرجل له نفسه: "الضابط فلان، طبيب في المدينة الطبية" (لم أقدم نفسي على أنني صحفي، وما شعرت بأن ذلك يُحدث فرقاً). وفوراً تغيّرت المعطيات. قال الشرطي للآخر ببالغ الاحترام: "ممكن رخصك سيدي؟"، وكتب "الكروكي" ضد سيارتنا. واستفسرت. قال إن هذا حادث على تقاطع متساوٍ، لأن الشارع الذي يبدو رئيسياً ليس كذلك، لأنه ليست فيه جزيرة وسطية. وهكذا يتساوى مع "الدخلة" الأخرى في الأولوية، ولو أنها تبدو شارعاً فرعياً. وبتطبيق قاعدة "الأولوية للذي على اليمين" يصبح حق المرور للضابط الطبيب الخارج من اليمين، حتى لو كانت السيارة "المضروبة" صاعدة والأولوية للصاعد. وقد استخدمت "حقي في الاعتراض" فلم أوقع الكروكي. فقال الشرطي: إصنع ما شئت!
وصنعت. سألت عارفاً بالهاتف، فقال إن الشرطي "نظرياً" على حق. إنّه يطبق حرفيّة القانون، ولذلك لم يقس على منطق الفارق الناصع بين الشارع الرئيس والفرعي، وإنما على منطق الفرق بين المواطن و"الضابط"، واستخدم فكرة "الجزيرة الوسطية". قلت: والعمل؟ قال: اذهب إلى دائرة السير ووقع الكروكي وخذ رخصك. قلت: "أتصدق أن الطبيب تفاجأ هو نفسه بنتيجة الكروكي، وكان مقتنعاً تماماً بأنه المخطئ؟". قال: "ربما تحتاج إلى واسطة ووجع رأس لإعادة رسم الكروكي، لكنني أرى المسألة لا تستأهل. أصلح سيارتك ويعوضك الله". وفعلت. ولِمَ لا؟ تغلبك سطوة الآخر هنا، وتتغلب على آخر بواسطتك هناك! وقد نفعتني الواسطة أنا نفسي مرات لا تُحصى، منها عندما أضاع مركز أمني بطاقة هويتي، وأعياني استخراج بطاقة بديلة أشهراً حتى وسّطتُ صديقاً يعرف مسؤولاً كبيراً في الجوازات!
يحتاج تغيير ثقافة "الواسطة" والمحسوبية إلى عمل طويل وصارم من تطبيق حكم القانون، والتساوي في حقوق المواطنة، وتحكيم معايير الكفاءة، وإلغاء الفارق بين "الخيار" و"الفقوس" فعلاً وقولاً. وبغير ذلك، سيصبح البلد كارثة على البعض بلا واسطة –حتى من الأكثر كفاءة- كما هو حاله بوجود الواسطة. وسيظل الكثيرون –غالباً- عاطلين عن العمل، "يربّون الأمل"!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة